الثلاثاء، 27 فبراير 2018

الرئيسية قصيدة وقراءة رحلة إلى عالم غازي القصيبي الشعري

قصيدة وقراءة رحلة إلى عالم غازي القصيبي الشعري

قصيدة وقراءة
رحلة إلى عالم غازي القصيبي الشعري 


 
ماذا تريد من السبعين يا رجل ؟
هذه رائعة للدكتور غازي القصيبي نشرت يوم الأحد في 2-3-1431هـ -7-3-2010م في جريدة الجزيرة وقد جاءت القصيدة بعنوان (ماذا تريد من السبعين يا رجل؟) وكأن القصيبي يستشرف موته، وكأن الشاعر يتنبأ بموعد وفاته وصعوده إلى الرفيق الأعلى!!.
بداية فإن القصيبي - رحمه الله - في هذه القصيدة يتحدث عن سن الكهولة فيسائل نفسه في ديالوج داخلي ذاتي محدثاً نفسه؛ فيم يفعل ويريد بعد أن بلغ السبعين من العمر؟! إذ ليس هو مثل الأمس في أيامه الأولى التي عاصر فيها الشباب، وهو هنا يصف العمر بعد السبعين والأيام بأنها: حاسرة الأنياب وكالحة، وهي كوجه سلّه الأجل، وكأنها الدنيا أصبحت مدبرة عنه،غير مقبلة كأيام الصبا والشباب التي نعم فيها برغيد العيش فنراه يصف السبعين بسيدة بل بسيدته، ويناديها متأوّهاً ومعتذراً، فقد بلغ السبعين ولم يعد له سوى انتظار الأجل، ولكنه - رحمه الله - لم ييأس بل كان لديه الأمل إذ إنه كان يظن أنه لن يبلغ السبعين، وها هو يبلغها ولكنه يعتذر لها، فلم يعد للاحتفال بعيد الميلاد - كما يصف - بعد السبعين أي طعم، وكأن الشاعر يتنبأ باقتراب المنيّة، وصعود الروح إلى بارئها، لذا نراه يكتب القصيدة وينشرها، ثم بعد شهور قليلة من كتابتها يتوفاه المولى عز وجل، وتظل القصيدة هي الشاهد على كلامه لتؤكد إخلاصه للشعر، وللنقد، وللصحافة، ولوطنه الحبيب المملكة العربية السعودية، حتى آخر لحظة في حياته أسأل المولى عز وجل له الرحمه.
لقد كانت مرافئ الشعر لديه متعددة، كما كانت روافد الكتابة الأدبية عنده ثريّة ومتنوعة، وقد أفاد جيله، وكان من أبرز المعاصرين، ومن أوائل الرواد المجددين في مسيرة الثقافة السعودية بوجه خاص، والثقافة العربية بوجه عام.
إن الشاعر الذي بلغ السبعين، هو الذي أقام حفل تأبينه بنفسه، ليعلن أمام العالم أنه شهم وشجاع، وأنه لا يخشَ الموت بل يستقبله، ويحتفل به، ويعلن ميلاد قرب أجله، بمشارفته السبعين يقول:
ماذا تريد من السبعين يارجل ؟
لا أنت أنت ولا أيامك الأول
جاءتك حاسرة الأنياب كالحة
كأنما هي وجه سلّه الأجل
أواه ! سيدتي السبعون ! معذرة
إذا التقينا ولم يعصف بي الجدل
قد كنت أحسب أن الدرب منقطع
وأنني قبل لقيانا سأرتحل
إنه د. غازي القصيبي رجل الحياة والمؤمن بحقيقة الموت، وشاعر الوطن الذي كانت له صولات وجولات في لندن، وكل العواصم العالمية، رافعاً لواء المملكة، وعلى صفحات الصحف في: (الجزيرة) و(عكاظ) و(البلاد) وفي (المجلة العربية) وغيرها من المجلات والصحف، ومع هذا نراه يقبل على السبعين بهدوء، وكأنه يخاطب ملك الموت ولا يخشاه! لأنه قدم الكثير، فهو يسأل أيامه عن أي احتفالية يحتفل؟ هل يحتفل بالشباب الذي شابت حدائقه؟ أم بالأماني التي علاها اليأس والضجر فكأنها تشتعل بيأس لأنها مقبلة على إدبار، بعد أن كانت مقبلة على إقبال!!.
إنه لا يريد الاحتفال بالحياة، فهو يراها ذاهبة، وأنه أدى رسالته، لذا فإن الحياة كما يصفها بأنها ولّت نضارتها، كما ذهبت النضارة عن الشباب، وبعد أن وهنت العزيمة، لذا نراه يخاطب رفاقه الذين سبقوه بالموت، وتركوه يعاني وحده، ويتحمل المشاق، وعبء الأيام والسنين، والمجتمع، والحياة، يقول:
أواه ! سيدتي السبعون ! معذرة
بأي شيْء من الأشياء نحتفل ؟!
أبالشباب الذي شابت حدائقه ؟
أم بالأماني التي باليأس تشتعل ؟
أم بالحياة التي ولّت نظارتها ؟
أم بالعزيمة أصمت قلبها العلل ؟
أم بالرفاق الأحباء الألى ذهبوا
وخلفوني لعيش أنسه ملل؟
إنه يعتب على رفاقه الذين سبقوه إلى رحلة الرحيل وتركوه للملل بعد الأنس في وجودهم، وكأنه ينتقد الوضع الحالي، ويذكّرنا باختلال الأمور وبالترهل الثقافي العربي الذي شابنا جميعاً في هذه المرحلة من هذا العصر، ومع كل فقد تحمّل العبء بعد رحيل أبناء جيله من الكبار، فأصبح قطب الثقافة والإبداع، وأحد المرجعيات الكبرى للمثقفين السعوديين، كما كان المثل للمثقف الذي يعلن رأيه في جميع المجالات، دون تردد، أو توان، فكان رأيه الأصوب دائماً، إذ إنه المفكر، الأديب، الفيلسوف، الألمعي، وهو مع كل ذلك الرجل المتواضع، بل نراه يصف نفسه بالعبد، الذي يخدم الثقافة والأدب، وهو بالطبع السيد والمفكر، وها هو يودع أجله لخالقه، فيختار المولى وديعته، وهو في أوج عظمته إذ إنه كان رحمه الله المتربع على العرش الثقافي السعودي حتى قبل وفاته يقول:
تبارك الله ! قد شاءت إرادته
لي البقاء فهذا العبد ممتثل !
والله يعلم ما يلقى وفي يده
أودعت نفسي وفيه وحده الأمل
إن د. غازي القصيبي لم يمت بل هو أحد عمالقة الرأي والكلمة، وهو أحد أعمدة الثقافة السعودية والعربية وسيظل الدكتور غازي القصيبي في قلوبنا وفي قلب كل سعودي، وعربي، بل في قلوب كل تلاميذه ومحبيه ومن تعلموا على يديه من المحيط إلى الخليج.
غازي القصيبي سيرة ذاتية
جاء في الموسوعة الحرة (ويكبيديا) بعضاً من سيرة الدكتور غازي القصيبي نوردها كما جاءت هناك ونضيف إليها صدور كتابه الأخير (الوزير المرافق) الذي لم تورده الموسوعة لندلل إلى موسوعية الرجل، وإصراره على الكتابة والتأليف حتى آخر قطرة عمر في الحياة، ومما جاء في الموسوعة عن مسيرة هذا النهر الخالد: لقد قضى في الأحساء سنوات عمره الأولى، ثم انتقل بعدها إلى المنامة بالبحرين ليدرس فيها مراحل التعليم. نال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة ثم تحصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا التي لم يكن يريد الدراسة بها، بل كان يريد دراسة «القانون الدولي» في جامعة أخرى من جامعات أمريكا، وبالفعل، حصل على عدد من القبولات في جامعات عدة، ولكن لمرض أخيه نبيل، اضطر إلى الانتقال إلى جواره والدراسة في جنوب كاليفورنيا، وبالتحديد في لوس أنجلوس، ولم يجد التخصص المطلوب فيها، فاضطر إلى دراسة «العلاقات الدولية» أما الدكتوراه ففي العلاقات الدولية من جامعة لندن والتي كانت رسالته فيها حول اليمن كما أوضح ذلك في كتابه الشهير «حياةٌ في الإدارة».
حياته العملية المناصب التي تولاها
أستاذ مساعد في كلية التجارة بجامعة الملك سعود في الرياض 1965 - 1385هـ.
عمل مستشارا قانونيا في مكاتب استشارية وفي وزارة الدفاع والطيران ووزارة المالية ومعهد الإدارة العامة.
عميد كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود 1971 - 1391هـ.
مدير المؤسسة العامة للسكك الحديدية 1973 - 1393 هـ.
وزير الصناعة والكهرباء 1976 - 1396 هـ.
وزير الصحة 1982 - 1402هـ.
سفير السعودية لدى البحرين 1984 - 1404 هـ.
سفير السعودية لدى بريطانيا 1992 - 1412هـ.
وزير المياه والكهرباء 2003 - 1423هـ.
وزير العمل 2005 - 1425 هـ.
أدبه ومؤلفاته
القصيبي شاعر له إنتاجات في فن الرواية والقصة، مثل «شقة الحرية» و»دنسكو» و»أبو شلاخ البرمائي» و»العصفورية» و»سبعة» و»سعادة السفير» و»الجنيّة». أما في الشعر فلديه دواوين «معركة بلا راية» و»أشعار من جزائر اللؤلؤ» و»للشهداء» و»حديقة الغروب». وله إسهامات صحافية متنوعة أشهرها سلسلة مقالات في عين العاصفة التي نُشرَت في جريدة الشرق الأوسط إبان حرب الخليج الثانية كما أن له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة وغيرها منها التنمية، الأسئلة الكبرى وعن هذا وذاك وباي باي لندن ومقالات أخرى الأسطورة ديانا و100 من أقوالي غير المأثورة وثورة في السنة النبوية وحتى لا تكون فتنة.
ذكره معلمه والأديب الراحل عبد الله بن محمد الطائي ضمن الشعراء المجددين في كتابه (دراسات عن الخليج العربي) قائلاً:
«أخط اسم غازي القصيبي، وأشعر أن قلبي يقول ها أنت أمام مدخل مدينة المجددين، وأطلقت عليه عندما أصدر ديوانه أشعار من جزائر اللؤلؤ الدم الجديد، وكان فعلاً دماً جديداً سمعناه يهتف بالشعر في الستينيات، ولم يقف، بل سار مصعداً، يجدد في أسلوب شعره، وألفاظه ومواضيعه».
يعد كتاب حياة في الإدارة أشهر ما نشر له، وتناول سيرته الوظيفية وتجربته الإدارية حتى تعيينه سفيراً في لندن. وقد وصل عدد مؤلفاته إلى أكثر من ستين مؤلفاً. له أشعار لطيفة ومتنوعة ورواية سلمى ترجم كتاب للمؤلف إيريك هوفر باسم المؤمن الصادق.
متفرقات
منح وسام الكويت ذا الوشاح من الطبقة الممتازة 1992م.
منح وسام الملك عبد العزيز وعدداً من الأوسمة الرفيعة من دول عربية وعالمية.
لديه اهتمامات اجتماعية مثل عضويته في جمعية الأطفال المعوقين السعودية وهو عضو فعال في مجالس وهيئات حكومية كثيرة.
سيرته الكاملة
في بيئة «مشبعة بالكآبة»، كما يصفها محور هذه السيرة، كانت ولادته، التي وافقت اليوم الثاني من شهر مارس عام 1940، ذلك الجو الكئيب كانت له مسبباته، فبعد تسعة أشهر من ولادة (غازي) توفيت والدته، وقبل ولادته بقليل كان جده لوالدته قد توفي أيضاً، وإلى جانب هذا كله كان بلا أقران أو أطفال بعمره يؤنسونه. في ذلك الجو، يقول غازي، «ترعرعت متأرجحاً بين قطبين أولهما أبي وكان يتسم بالشدة والصرامة (كان الخروج إلى الشارع محرّماً على سبيل المثال)، وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على (الصغير اليتيم)». ولكن، لم يكن لوجود هذين المعسكرين، في حياة غازي الطفل، تأثير سلبي كما قد يُتوقع، بل خرج من ذلك المأزق بمبدأ إداري يجزم بأن «السلطة بلا حزم، تؤدي إلى تسيب خطر، وأن الحزم بلا رحمة، يؤدي إلى طغيان أشد خطورة»، هذا المبدأ، الذي عايشه غازي الطفل، طبقه غازي المدير وغازي الوزير وغازي السفير أيضاً، فكان على ما يبدو، سبباً في نجاحاته المتواصلة في المجال الإداري. إلا أننا لا ندري بالضبط، ماذا كان أثر تلك النشأة لدى غازي الأديب.
على أي حال، لم يستمر جو الكآبة ذاك، ولم تستبد به العزلة طويلاً، بل ساعدته المدرسة على أن يتحرر من تلك الصبغة التي نشأ بها، ليجد نفسه مع الدراسة، بين أصدقاء متعددون ووسط صحبة جميلة.
في المنامة، كان بداية مشواره الدراسي، حتى أنهى الثانوية، ثم حزم حقائبه نحو مصر، وإلى القاهرة بالتحديد، وفي جامعتها انتظم في كلية الحقوق، وبعد أن أنهى فترة الدراسة هناك، والتي يصفها بأنها «غنية بلا حدود» - ويبدو أنها كذلك بالفعل إذ (يُقال) أن رواية «شقة الحرية» التي كتبها، والتي كانت هي الأخرى غنية بلا حدود، تحكي التجربة الواقعية لغازي أثناء دراسته في القاهرة.
بعد ذلك، عاد إلى السعودية يحمل معه شهادة البكالوريوس في القانون، وكان في تخطيطه أن يواصل دراسته في الخارج، وأصرّ على ذلك رغم العروض الوظيفية الحكومية التي وصلته، وكان أهمّها عرضاً يكون بموجبه مديراً عاماً للإدارة القانونية في وزارة البترول والثروة المعدنية والتي كان يحمل حقيبتها آنذاك عبد الله الطريقي، إلا أنه رفضه مقدماً طموح مواصلة الدراسة على ما سواه. وكان أباه حينها قد عرض عليه الدخول في التجارة، معه ومع إخوته، إلا أنه اعتذر من أبيه عن ذلك أيضاً، فما كان من الأب «شديد الاحترام لاستقلال أولاده» كما يصفه ابنه، إلا أن يقدّر هذه الرغبة، بل ويساعده عبر وساطاته بتدبير أمر ابتعاثه الحكومي إلى الخارج، وهذا ما تم.
وفي 1962، ونحو لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية، كانت الوجهة هذه المرة، وفي جامعة جنوب كاليفورنيا العريقة، قضى ثلاث سنوات تتوّجت بحصوله على درجة الماجستير في العلاقات الدولية.
وفي أميركا وأثناء دراسة الماجستير، جرّب غازي منصباً إدارياً للمرة الأولى، وذلك بعد فوزه «بأغلبية ساحقة» في انتخابات جمعية الطلاب العرب في الجامعة، وبعد رئاسته لها بأشهر أصبحت الجمعية ذات نشاط خلاق، بعد أن كانت الفرقة سمتها نظراً للوضع الذي كان يعيشه العالم العربي آنذاك والذي يؤثر بالطبع على أحوال الطلاب العرب.
«العودة إلى الوطن، والعمل أستاذ جامعي ثم إكمال الدراسة والحصول على الدكتوراه بعد فترة عملية»، كان قرار غازي من بين خيارات عدة، فعاد إلى الرياض عام 1964، وإلى جامعتها (جامعة الملك سعود حالياً) تقدّم آملاً بالتدريس الجامعي في كلية التجارة (إدارة الأعمال حالياً)، ولكن السنة الدراسية كانت قد بدأت قبل وصوله، ما جعل أمله يتأجل قليلاً حتى السنة التالية، وفي تلك الأثناء، قضى غازي ساعات عمله اليومية في مكتبة الكلية (بلا عمل رسمي)، وقبيل فترة الامتحانات الجامعية جاء الفرج، حاملاً معه مكتباً متواضعاً ومهمة عملية، لم تكن سوى لصق صور الطلاب على استمارات الامتحان! وقام حامل الماجستير في العلاقات الدولية بتلك المهمة عن طيب خاطر.
وقبل بدء السنة التالية، طلب منه عميد الكلية أن يجهّز نفسه لتدريس مادتي مبادئ القانون ومبادئ الإدارة العامة، إلا أنه وقبيل بدء الدراسة فوجئ الأستاذ الجامعي الجديد بأنه عضو في لجنة السلام السعودية - اليمنية، التي نصت عليها اتفاقية جدة لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن، وكان أن رُشح اسمه كمستشار قانوني في الجانب السعودي من اللجنة، دون علمه، ليأتي أمر الملك فيصل باعتماد أسماء أعضاء اللجنة، فلم يكن هناك بدّ من الانصياع لهكذا عضوية. ومع أوائل العام 1966 كانت مهمة اللجنة قد انتهت ليعود المستشار القانوني السياسي إلى أروقة الجامعة، وكلف حينها بتدريس سبع مواد مختلفة. وفي 1967 غادر نحو لندن، ليحضّر الدكتوراه هناك، وكتب رسالته حول حرب اليمن، ثم عاد إلى الرياض في 1971، ولكنه قد أصبح (الدكتور) غازي، ليبدأ مشواره العملي، ويصل إلى مجلس الوزراء بعد أربع سنوات في التشكيل الوزاري الذي صدر عام 1975م.
الأستاذ الجامعي والوزير والسفير
مع بداية العام 1971 عاد الدكتور غازي القصيبي للعمل في الجامعة بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من لندن في المملكة المتحدة، وأدار بعد عودته بقليل مكتباً للاستشارات القانونية كان يعود لأحد أصدقائه، ومن خلال هذه التجربة التي يعترف الدكتور غازي بأنه لم يوفق فيها تجارياً، يبدو أنه وفق بشأن آخر، وهو التعرف على طبيعة المجتمع السعودي بشكلٍ أقرب من خلال تعامله مع زبائن المكتب.
في تلك الفترة أيضاً كانت الفرصة قد سنحت للكتابة بشكل نصف شهري في جريدة الرياض، مع إعداد برنامج تلفزيوني أسبوعي يتابع المستجدات في العلاقات الدولية، وكان لظهوره الإعلامي دور في ترسيخ هذا الاسم في ذاكرة العامة. وفي تلك الأثناء كذلك شارك القصيبي مع مجموعة لجان حكومية كانت بحاجة لمستشارين قانونيين ومفاوضين مؤهلين، من ضمنها لجان في وزارة الدفاع والطيران ولجان في وزارة المالية والاقتصاد الوطني وغيرها.
في تلك الحقبة من بداية المشوار العملي الحقيقي، كان لا بد وأن يكون لبزوغ هذا الاسم ثمن، وكان كذلك بالفعل إذ انطلقت أقاويل حول «عاشق الأضواء» و»عاشق الظهور»، ويعلق الدكتور غازي على ذلك بالقول: «تعلمت في تلك الأيام ولم أنس قط، أنه إذا كان ثمن الفشل باهضاً، فللنجاح بدوره ثمنه المرتفع... أعزو السبب - لظهور هذه الأقاويل - إلى نزعة فطرية في نفوس البشر، تنفر من الإنسان المختلف، الإنسان الذي لا يتصرف كما يتصرفون».
وبعد أقل من عام، كان على الأستاذ الجامعي أن يتحول عميداً لكلية التجارة وهو المنصب الذي رفضه إلا بشرط هو ألا يستمر في المنصب أكثر من عامين غير قابلة للتجديد، فكانت الموافقة على شرطه هذا إلى جانب شروط أخرى رحب بها مدير الجامعة. وبدأت تنمو الإصلاحات في الكلية ونظامها وسياستها بشكلٍ مستمر وبنشاط لا يتوقف. حتى عاد أستاذاً جامعياً بعد عامين.
وفي 1973، كان القرار الهام، الانتقال من الحياة الأكاديمية إلى الخدمة العامة، في المؤسسة العامة للسكة الحديدية، وكان سبق أن عرض عليه الأمير نايف وزير الداخلية أن يعمل مديراً عاماً للجوازات والجنسية، ولكنه اعتذر، أما إدارة مؤسسة السكة الحديدية «فأثارت شهية الإداري الذي ولد داخل الأكاديمي»، على حد وصف الدكتور غازي.
وقبل أن يتضح له أنه بدأ شيئاً فشيئاً يتحول إلى «وزير تحت التمرين»، كان قد التقى مرات عدة مع الأمير فهد (آنذاك)، حتى أنه شرح له في إحدى المرات فلسفة المملكة التنموية، وكأن ذاك درس للطالب النجيب لينتقل نحو مجلس الوزراء، وهذا ما حدث بالفعل في عام 1975، ضمن التشكيل الوزاري الجديد، إذ عُيّن وزيراً لوزارة الصناعة والكهرباء، ويذكر المواطن من ذلك الجيل أن الكهرباء حينها دخلت كل منزل أو على الأقل غالبية المنازل في السعودية وخلال فترة وجيزة، كذلك كان من أهم إنجازات تلك الفترة نشوء شركة «سابك» عملاق البتروكيماويات السعودي. وكانت قد ظهرت آنذاك العلامة المميزة ل غازي القصيبي: الزيارات المفاجئة.
يعترف غازي الوزير، أنه لم يكن بوسعه تحقيق ما حققه لولا «الحظوة» التي نالها لدى القيادة السياسية للبلد، وهذه الحظوة لم تكن بالطبع لتأتي من فراغ، وتوطدت أكثر مع الأمير فهد، ولي العهد. وفي يوم من أواخر العام 1981، كان الأمير فهد قد قرر تعيين غازي وزيراً للصحة، وهو ما تم بعد تولي الملك فهد مقاليد الحكم عام 1982، ويقول الوزير الجديد، حينها، في هذا الشأن: «كانت ثقة الملك المطلقة، التي عبر عنها شخصياً وفي أكثر من وسيلة ومناسبة، هي سلاحي الأول والأخير في معارك وزارة الصحة»، وفي تلك الوزارة كانت التغيرات حثيثة ومتلاحقة، نحو الأفضل بالطبع، ظهر غازي في تلك التغيرات كإنسان أكثر من كونه وزير أو إداري، وربما كان لطبيعة العمل الإنساني في وزارة الصحة دور كبير في هذا.
كان من الأمثلة على ذلك، إنشاء جمعية أصدقاء المرضى، إنشاء برنامج يقوم على إهداء والدي كل طفل يولد في مستشفيات الوزارة، صورة لوليدهم بعد ولادته مباشرة، مع قاموس للأسماء العربية! هذا فضلاً عن تعزيز عملية التبرع بالدم وبث ثقافتها وتحفيز المواطنين نحوها، كذلك ظهرت لمسات روحانية كتعليق آيات من القرآن داخل المستشفيات وتوزيع المصاحف على المرضى المنومين.
1984 أعفي من منصبه وبعد شهر واحد فقط، صدر تعيينه سفيراً للملكة في دولة البحرين، بناءً على رغبته، وبقي كذلك لثماني سنوات، حتى صدر قرار تعيينه - بعد استشارته - سفيراً للمملكة في بريطانيا، وظل هناك طوال إحدى عشرة سنة، ليعود من السلك الدبلوماسي نحو الوزارة، وزيراً للمياه ثم المياه والكهرباء بعد أن دمجتا في وزارة واحدة، لينتقل مؤخرا نحو وزارة العمل.
غازي الشاعر والروائي والكاتب
كان لغازي ميول أدبية جادة، ترجمها عبر دواوين أشعار كثيرة، وروايات أكثر، وربما يعدّ بسببها أحد أشهر الأدباء في السعودية، ويظل رمزاً وأنموذجاً جيداً لدى الشباب منهم، وكالعادة، فالمبدعين لا بد وأن تحاصرهم نظرات الشك، وتلقى إليهم تهم لها أول لكنها بلا آخر، لا سيما وأن متذوقي الأدب قلة، ومحبي حديث الوعاظ المتحمّسين غالبية، وابتدأت تلك المشاحنات من جانب الوعاظ مع إصداره لديوانه الشعري الثالث «معركة بلا راية» عام 1970، إذ ساروا، نحو الملك فيصل لمطالبته بمنع الديوان من التداول، وتأديب الشاعر، فأحال الملك فيصل، الديوان، لمستشاريه ليطلعوا عليه ويأتوه بالنتيجة، فكان أن رأى المستشارون أنه ديوان شعر عادي لا يختلف عن أي ديوان شعر عربي آخر، إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان واستمرت الشكوى للملك فيصل، فما كان منه سوى أن شكل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف، لدراسة الديوان أو محاكمته بالأصح، وانتهت اللجنة إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلق، ولا تمر هذه الحادثة في ذهن القصيبي إلا ويتذكر موقف الملك عبد الله بن عبد العزيز من هذه القضية، إذ يقول غازي: «سمعت من أحد المقربين إليه أنه اتخذ خلال الأزمة موقفاً نبيلاً وحث الملك فيصل على عدم الاستجابة إلى مطالب الغاضبين المتشنجة».
فيما بعد توالت الإصدارات بين دواوين الشعر والروايات والكتب الفكرية، ومن دواوينه الشعرية: صوت من الخليج، الأشج، اللون عن الأوراد، أشعار من جزائر اللؤلؤ، سحيم، وللشهداء. ومن رواياته شقة الحرية، العصفورية، سبعة، هما، سعادة السفير، دنسكو، سلمى، أبو شلاخ البرمائي، وآخر إصداراته في الرواية: الجنية. وفي المجال الفكري له من المؤلفات: التنمية، الأسئلة الكبرى، الغزو الثفافي، أمريكا والسعودية، ثورة في السنة النبوية، والكتاب الذي وثق فيه سيرته الإدارية والذي حقق مبيعات عالية: حياة في الإدارة.
وأحدثت معظم مؤلفات الشاعر والروائي والمفكر غازي القصيبي ضجة كبرى حال طبعها، وكثير منها مُنع من التداول في السعودية لا سيما الروايات، ولا يزال فيها ما هو ممنوع حتى هذه اللحظة.
وعلى المستوى الروائي يكاد يُجمع المهتمين بأن روايتي شقة الحرية والعصفورية، هما أهم وأفضل وأشهر ما كتب القصيبي، في حين احتفظ ديوان معركة بلا راية بمرتبته المتقدمة بين دواوين الشعر الأخرى، وفي المؤلفات الأخرى، يبقى حياة في الإدارة واحداً من الكتب التي حققت انتشاراً كبيراً رغم أن ثقافة القراءة كانت شبه معدومة حينها في المجتمع (نشر الكتاب عام 1998 وهو عام بائس في التاريخ السعودي انخفض فيه سعر برميل النفط إلى أقل من 10 دولارات).
ولا يزال غازي منذ البدء متواصلاً مع المشهد الثقافي السعودي عبر إصداراته شبه السنوية. وفي الشأن الأدبي، لا تخلو سيرة غازي الوزير من مواقف طريفة تسبب بها غازي الأديب، إذ يروي القصيبي أنه في أحد الأيام إبان وزارته في الكهرباء والصناعة حصل انقطاع للكهرباء في أحد أحياء الرياض، وكان القصيبي يذهب إلى مقر الشركة ويتلقى الشكاوى الهاتفية مع موظفي السنترال كلما حدث انقطاع، فلما كان ذاك اليوم، وأثناء تلقيه للاتصالات على سنترال الشركة، حادثه مواطن غاضب قائلا: «قل لوزيركم الشاعر أنه لو ترك شعره واهتم بعمله لما انقطعت الكهرباء عن الرياض»، يقول غازي، «فقلت له ببساطة: شكراً.. وصلت الرسالة! فقال: ماذا تعني؟ قلت: أنا الوزير! قال: احلف بالله! فقلت: والله. وكانت هناك لحظة صمت في الجانب الآخر قبل أن تهوي السماعة».
ودارت نزاعات فكرية ثقافية بين غازي ومجموعة من الصحويين في أواسط التسعينات، حولها الصحويون من اختلافات إلى خلافات، ووصلوا فيها إلى مراحل متقدمة من الطعن في غازي عبر المنشورات والمنابر وأشرطة الكاسيت، فأصدر غازي حينها كتاباً بعنوان «حتى لا تكون فتنة» وهو بمثابة الرسالة، يوجهها نحو من جعلوا أنفسهم خصوما له،وانتهت تلك المرحلة بسلام.
ورغم أن البعض يرى أدب غازي متطرفاً نحو اليسار، إلا أن لآخرين رأيهم بأنه متطرفاً لليمين، لا سيما في أدبياته الأخيرة، وخصوصاً قصيدة الشهداء (نص قصيدة الشهداء)، التي مجّد فيها غازي للعمليات الانتحارية (في فلسطين) قبل نحو ثلاث سنوات، وأشاع بعضهم حينها أنها كانت سبباً لتدهور علاقاته الدبلوماسية في بريطانيا، فكان أن نقل من السفارة عائداً إلى الوزارة، وذلك بعد نحو عام من نشر القصيدة.
وهنا يستشهد القصيبي بقول الأديب السوري محمد الماغوط: «ما من موهبة تمر بدون عقاب» ويضيف عليها: «وما من موقف يمر بلا ثمن!».
شعره
ويقول رداً على عتاب وجهه له الأديب عبد الله الخميس:
أقرأ ألف معروض وشكوى
وتقرأ أنت أشعار الرصافي
وأحمل في دمي هم البرايا
وهمك نصب حال ومضاف
كلماته الشعرية الأخيرة وهو على فراش المرض وجاء منها:
أغالب الليل الحزين الطويل
أغالب الداء المقيم الوبيل
أغالب الآلام مهما طغت
بحسبي الله ونعم الوكيل
فحسبي الله قبيل الشروق
وحسبي الله بُعيد الأصيل
وحسبي الله إذا رضنّي
بصدره المشؤوم همي الثقيل
وحسبي الله إذا أسبلت
دموعها عين الفقير العليل
يا رب أنت المرتجي سيدي
أنر لخطوتي سواء السبيل
قضيت عمري تائهاً، ها أنا
عود إذ لم يبق إلا القليل
الله يدري أنني مؤمن
في عمق قلبي رهبة للجليل
مهما طغى القبح يظل الهدى
كالطود يختال بوجه جميل
أنا الشريد اليوم يا سيدي
فاغفر أيا رب لعبد ذليل
ذرفت أمس دمعتي توبة
ولم تزل على خدودي تسيل
يا ليتني ما زلت طفلاً وفي
عيني ما زال جمال النخيل
أرتل القرآن يا ليتني
ما زلت طفلاً.. في الإهاب النحيل
على جبين الحب في مخدعي
يؤزني في الليل صوت الخليل
هديل بنتي مثل نور الضحى
أسمع فيها هدهدات العويل
تقول يا بابا تريث فلا
أقول إلا سامحيني.. هديل
وفاته
توفي عن عمر يناهز السبعين عامًا في يوم الأحد 5 رمضان 1431هـ الموافق 15 أغسطس 2010 الساعة العاشرة صباحًا في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض بعد معاناة طويلة مع مرض سرطان القولون، رحمه الله.
وكان رحمه الله قد تردّت حالته الصحية خلال الأيام الماضية بعد أن تمّ نقله إلى المستشفى قبل شهر ونصف من مملكة البحرين التي ذهب إليها لقضاء فترة للنقاهة لم تتجاوز الشهرين من إجرائه لعملية جراحية بسبب إصابته بمرض سرطان المعدة في الولايات المتحدة الأميركية في شهر تشرين الثاني - نوفمبر من العام الماضي.
القصيبي الذي يعتقد بأنّه تعرّض لوعكة صحية أفقدته أكثر من 40 كغ من وزنه أدخل على أساسها إلى المستشفى التخصصي الذي أمر بنقله إلى أميركا حيث أجريت له العملية إلاّ أن الوعكة الأخيرة قبيل الشهر التي عاد بموجبها إلى المستشفى التخصصي وهو نقطة البداية لعلاجه لتكن هي آخر أيامه المعدودة ولتعلن وفاة رمز الشعر والأدب السعودي الأكبر أدبيًّا وعمليًّا. وقد نعاه الأدباء والمثقفون والمسؤولون ونعته الصحف العربية والعالمية وكتب وسيكتب عنه كثير من الأدباء والكتاب.
سليمان الأفنس الشراري - المستشار العام لرابطة أدباء العرب
Alafnes_s@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.