إن عالم الاجتماع، هو ،
و بالضرورة ، ذلك الذي تأتي الفضيحة عن طريقة
الراحل خطأ بول باسكون
كتبهاعبد الرحيم العطري ، في 22 مايو 2009 الساعة: 11:31 ص
في حوار مع عالم الاجتماع الراحل بيير
بورديو
يد الدولة اليمنى و يدها اليسرى
ما زالت الحاجة ماسة إلى الكبار، لهزم
سديم المعنى، ما زلنا بحاجة أعلى قليلا إلى معانقة السؤال النقدي، لمجابهة
الارتياح البليد، لمقاومة ثقافة الجاهز، لكتابة تاريخ لم يكتب بعد، و لمحو التفاهة
و بناء أساسيات العقل، لقد صاح محمد جسوس قبلا قائلا "إنهم يريدون خلق جيل من
الضباع"، و لربما بلغوا المراد، لهذا نحاول في الشروق الثقافية بمقدار ما،
ألا نساير هدفهم الأثير، و أن نراهن على جعل هذه المساحات المكلومة فضاء حيويا
لإصاخة السمع للصوت المختلف، للانهجاس العميق، و للكبار من آل الحرف و السؤال، فمع
الحدث يخصص نافذته اليوم، كما الأمس القريب، لباحث رصين بصم مسار السوسيولوجيا
العالمية بأبحاث و دراسات مائزة، و كيف لا و هو القائل دوما: "إن علماء
الاجتماع أشبه ما يكونون بمشاغبين يفسدون على الناس حفلاتهم التنكرية"…
سؤال : لقد تناول العدد الجديد من المجلة
التي تديرونها موضوع المعاناة (1). ونحن نجد في هذا العدد عدة حوارات مع أشخاص لا
تعطيهم وسائل الإعلام الكلمة عادة : شباب الضواحي المحرومون ، صغار الفلاحين ،
العمال الاجتماعيون. لقد عبر الأستاذ الرئيس في إعدادية على سبيل المثال ، والذي
يعاني من صعوبات جمة ، عن مرارته الشخصية ؛ فبدل أن يحرص على نقل المعارف لتلامذته
، تحول على الرغم منه إلى شرطي في ما يشبه كوميسارية، فهل تعتقدون أن شهادات شيقة
وطريفة كهاته يمكن أن تساعد على تفهم تململ اجتماعي؟ …
بيير بورديو : إننا نلتقي في إطار البحث
الذي نجريه حول المعاناة الاجتماعية عديدا من الأشخاص كهذا الأستاذ الرئيس في
الإعدادية الذين داستهم واخترقتهم تناقضات العالم الاجتماعي المعيشة على شكل محن
شخصية، وأستطيع أن أذكر أيضا رئيس المشروع هذا المكلف بتنسيق جميع النشاطات في
إحدى ” الضواحي الصعبة ” بمدينة صغيرة شمال فرنسا، لقد وجد نفسه في مواجهة تناقضات
هي الحد الأقصى للتناقضات التي يشعر بها حاليا كل أولئك الذين نسميهم ” عمالا
اجتماعيين ” : المساعدين الاجتماعيين ؛ المربين ؛ هيئة القضاء ؛ وأيضا أكثر فأكثر
الأساتذة والمعلمون. إنهم يشكلون ما أسميه اليد اليسرى للدولة ؛ مجموع أعوان
الوزارات المستهلِكة كما يقال عنها ، والتي هي في كنف الدولة بصمة وعلامة على
صراعات الماضي الاجتماعية ، إنهم يتقابلون مع اليد اليمنى المتمثلة في كبار موظفي
وزارة المالية والأبناك العمومية أو الخاصة والمكاتب الوزارية. إن عددا من الحركات
الاجتماعية التي نشهدها ( وسنشهدها ) هي تعبير عن ثورة النبالة الصغرى للدولة ضد
نبالتها الكبرى.
سؤال : كيف تفسرون هذا السخط ، هذه الصورة
من فقدان الأمل وهذه الثورات؟ ..
ب.ب: أعتقد أن لدى اليد اليسرى إحساسا بأن
اليد اليمنى لم تعد تعرف أبدا ، أو أدهى من ذلك ، لم تعد تريد أبدا حقا معرفة ما
تفعله اليد اليسرى، وفي كل الأحوال فهي لا تريد أن تؤدي ثمن ذلك. وأحد الأسباب
الكبرى لفقدان الأمل لدى كل هؤلاء الأفراد يكمن في أن الدولة انسحبت ، أو هي في
طريقها للانسحاب ، من عدد من قطاعات الحياة الاجتماعية الملقاة على عاتقها والتي
هي مكلفة بها: السكن العمومي ، المستشفيات العمومية . . . الخ ، وهو سلوك مدهش
ومشين كثيرا على الأقل بالنسبة لبعضها عندما يتعلق الأمر بدولة اشتراكية يمكننا أن
نتوقع منها على الأقل أن تشكل ضامنا للمصلحة العمومية كمصلحة مفتوحة وتخدم الجميع
بدون تمييز . . . إن ما يوصف بكونه أزمة في السياسة ونقيضا للنزعة البرلمانية هو
في الواقع فقدان الأمل اتجاه الدولة كمسؤولة عن المرفق العمومي.
كون الاشتراكيين لم يكونوا اشتراكيين كما
يزعمون ، فهذا لن يغيظ أحدا : فهذه الأوقات عسيرة ، وهامش المناورة والفعل ليس
واسعا، لكن ما يمكن أن يفاجئنا هو أنهم استطاعوا أن يساهموا إلى هذا الحد في إضعاف
الشأن العمومي : أولا في الأفعال عبر جميع أنواع التدابير أو السياسات ( ولن أشير
هنا إلا إلى وسائل الإعلام ) المستهدفة لتصفية مكتسبات الدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة ربما في الخطاب العمومي من خلال
امتداح المقاولة الخاصة( كما لو أنه لم يكن لدى روح المقاولة أي ميدان آخر غير
ميدان المقاولة ) وتشجيع المصلحة الخاصة.في كل هذا شيء مما يفاجئ ، وخاصة بالنسبة
لأولئك الذين يتم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية للقيام بالمهام المسماة ” اجتماعية
” وسد أشكال نقص منطق السوق الأكثر عدم قابلية للتحمل ، بدون تزويدهم بالوسائل
التي تمكنهم حقا من إنجاز مهامهم. فكيف لا يمكن امتلاك الإحساس بأنك تعرضت للنصب
أو يتم التنكر لك بشكل دائم ؟ ..
كان علينا أن نفهم منذ مدة طويلة أن
ثورتهم تمتد إلى ما وراء مسائل الأجر ، حتى ولو أن الأجر المحصل عليه هو مؤشر لا
اشتباه فيه للقيمة الممنوحة للعمل وللقائمين به ؛ فالازدراء لوظيفة ما يلاحظ أو من
خلال المقابل المادي ( الأجر ) المخصص لها ، الأقل أو الأكثر تفاهة.
سؤال : هل تعتقدون أن هامش الفعل لدى الحكام
السياسيين هو بهذا الحد من الضيق؟ ..
ب.ب: إنه دون شك أكثر تقلصا مما يراد لنا
أن نعتقد ، ويظل هناك على كل حال مجال تمتلك فيه الحكومات كامل حرية التصرف : إنه
مجال الرمزي.يتوجب أن تفرض نموذجية السلوك على جميع موظفي الدولة ، وخاصة عندما
تحتمي هذه النموذجية بتقليد الإخلاص لمصالح الناس الأكثر خصاصة وفقرا. بيد أنه كيف
لا يمكن التشكك عندما نرى فقط لا أمثلة الفساد ( التي هي أحيانا رسمية تماما من
خلال مكافئات بعض كبار الموظفين ) أو خيانة المصلحة العامة ( والكلمة بدون شك جد
قوية : وأنا أعني السلوك الأعوج ) وكل أشكال الاختلاس لممتلكات وأرباح وخدمات
عمومية لغايات خاصة : المحسوبية ، المحاباة ( فلدى حكامنا كثير من ” الأصدقاء
الشخصيين ” ) ، الزبونية ؟ ..
وأنا لا أتحدث عن الأرباح الرمزية !
فالتلفزة ساهمت بدون شك بنفس قدر مساهمة الرشاوي في انحطاط الفضيلة العمومية؛ لقد
نادت ودفعت إلى واجهة المسرح السياسي والثقافي الأمامية مسألة : ” هل رأيتني ؟ ..
” مهمومة قبل كل شيء بضمان الظهور على الشاشة والتباهي بالذات في تناقض كلي مع قيم
التضحية والتفاني المعتمة للمصلحة الجماعية التي تصنع الموظف أو المناضل. إن نفس
الهم الأناني المتمثل في التباهي وإضفاء القيمة على الذات ( في الغالب على حساب
المنافسين ) هو الذي يوضح كيف أن ” تأثيرات الإعلان الإشهاري ” تحولت إلى ممارسة
جد شائعة ؛ فإجراء ما بالنسبة للعديد من الوزراء يكون لا قيمة له فيما يبدو إلا
إذا كان يقبل أن يعلن عنه إشهاريا واعتباره منجزا منذ اللحظة التي يضحي فيها
عموميا. وباختصار ، فإن الفساد الأكبر الذي يؤدي إلى إماطة النقاب عن الفضيحة لأنه
يكشف عن التفاوت بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية ، ليس إلا تعريفا لكل ضروب
” العنف ” الصغيرة والعادية وعرضا للفخفخة وقبولا محموما للامتيازات المادية
والرمزية.
سؤال : لقد تحدثت عن الحرية الكبرى لدى
الحاكمين في المجال الرمزي ، و لا يتعلق الأمر بالسلوكيات المقدمة كأمثلة ؛ إذ
يتعلق الأمر أيضا بالأقوال وبالمثل المعبئة ، فمن أين يأتي النقص والقصور الحاليان
بخصوص هذه النقطة؟ ..
ب.ب: لقد تحدثنا كثيرا عن صمت المثقفين ،
وما يصدمني هو صمت السياسيين ؛ إنهم مفتقرون بشكل كبير للمثل المعبئة ، وذلك بدون
شك لأن تحويل السياسة إلى حرفة والشروط المطلوبة من أولئك الذين يرومون تحقيق
وضعية بداخل الأحزاب يقصيان أكثر فأكثر الأفراد الملهمين ، وبدون شك أيضا لأن
تعريف النشاط السياسي تغير مع مجيء الموظفين الذين تعلموا في المدارس ( مدارس
العلوم السياسية ) أنه من أجل أن تعمل بجد أو بكل بساطة حتى تتجنب الظهور بمظهر
أداة التهييج أو كتحفة قديمة يستحسن التحدث عن التدبير بدل التدبير الذاتي ، وأنه
يتوجب في كل الأحوال أن تضفي على ذاتك مظاهر ( أي لغة ) العقلانية الاقتصادية.
إن كل أنصاف الحذاق هؤلاء في مجال
الاقتصاد المنغلقين بداخل النزعة الاقتصادية الضيقة والقصيرة النظر لدى نظرة صندوق
النقد الدولي FMI للعالم التي أحدثت ( وستحدث ) أضرارا
فادحة في علاقات الشمال / جنوب تغفل بطبيعة الحال الأخذ بعين الاعتبار للتكاليف
الحقيقية على المدى القصير ، وبخاصة على المدى البعيد للفقر المادي والمعنوي الذي
هو العاقبة الوحيدة والمؤكدة للسياسة الواقعية Realpolitikالمشرعنة اقتصاديا : انحراف ، جريمة ،
إغراق في الكحول ، حوادث الطرق . . . الخ . إن اليد اليمنى هنا أيضا المشغولة
بمسألة التوازنات المالية تجهل ما تفعله اليد اليسرى المحتكة والمجابهة بالعواقب
الاجتماعية لــ ” اقتصاديات الموازنات والميزانيات ” المكلفة غاليا في الغالب.
سؤال : إذا ما أردنا تحديد نموذج مثالي
فسيكون إذن متمثلا في العودة باتجاه الدولة والشأن العمومي ، إنكم لا تشاطرون جميع
الناس آراءهم .
ب.ب:رأي من رأي جميع الناس ؟ .. أهو رأي
الأشخاص الذين يكتبون في الصحف والمثقفين الذين يوصون بــ ” أقل ما يمكن من الدولة
” والذين يدفنون بسرعة ما الشأن العمومي والمصلحة العمومية من أجل العموم . . إن
لدينا هاهنا نموذجيا نمطيا لتأثير هذا المعتقد المشترك الذي يضع أطروحات قابلة
تماما للمناقشة على الفور خارج إطار النقاش. يتوجب تحليل العمل الجماعي لــ”
المثقفين الجدد ” الذي خلق مناخا إيجابيا لانسحاب الدولة ، وبشكل واسع ، لإخضاع كل
شيء للقيم الاقتصادية ؛ إنني أشير إلى ما سمي ” عودة النزعة الفردية ” ، وهي ضرب
من النبوءة المنجزة ذاتيا تنحو نحو تدمير الأسس الفلسفية للدولة الحامية Welfare State ، وبخاصة مفهوم المسؤولية الجماعية ( في
حوادث الشغل والمرض والبؤس ) ، وهي الفتح الأساسي للفكر الاجتماعي ( والسوسيولوجي
) . إن عودة الفرد هي أيضا ما يسمح بـ ” توبيخ الضحية ” المسؤولة وحدها عن
تعاستها ونصحها بالبحث عن سبل الإغاثة الذاتية ، كل ذلك تحت غطاء ضرورة إنقاص
تكاليف المقاولة التي يتم تردادها بشكل لا يعرف التوقف.
لقد خلقت ردة فعل الذعر المستعيد للماضي ،
والتي حتمت أزمة 68 ، وهي الثورة الرمزية التي خضت كل الحاملين الصغار لرأسمال
ثقافي ( إلى جانب الدعامة المتمثلة في الانهيار ـ غير المأمول للأنظمة من النمط
السوفياتي ) خلقت الشروط الإيجابية للتشييد الفكري الذي عوض في نهايته ” فكر
العلوم السياسية ” ” فكر ماو ” .
سؤال: لقد أتيت على ذكر أفلاطون ، فهل
يقترب سلوك السوسيولوجي من سلوك الفيلسوف؟ ..
ب.ب: إن السوسيولوجي يتعارض مع فيلسوف
الرأي Doxosophe {الدوكسوسوفي} في أنه يضع البداهات موضع
تساؤل مثلما هو شأن الفيلسوف ، وبخاصة تلك التي تطرح على شكل أسئلة ، أسئلته هو
وكذا أسئلة الآخرين ، وذلك ما يصدم بعمق الدوكسوسوفي الذي يرى حكما سياسيا مسبقا
في رفض الخضوع السياسي في العمق ، والذي يستلزم القبول اللاشعوري بقواسم مشتركة
بالمعنى الأرسطي : أي الموضوعات أو الأطروحات التي تتم بواسطتها عملية الحجاج
والبرهنة ولكننا لا نبرهن عليها هي ذاتها.
سؤال : ألا تنحو بمعنى ما نحو إحلال
السوسيولوجي محل الفيلسوف ـ الملك الذي يعرف وحده أين تكمن المشاكل الحقيقية؟ ..
ب.ب: إن ما أدافع عنه قبل كل شيء هو
إمكانية وضرورة المثقف النقدي والناقد أولا للدوكسا الفكرية التي يفرزها
الدوكسوسوفيون ؛ فليست هناك ديمقراطية حقيقية بدون سلطة مضادة نقدية حقيقية ،
والمثقف أحد مكونات هذه السلطة المضادة في المقام الأول ، وهذا هو السبب في أنني
أعتبر أن فعل تدمير المثقف النقدي ، حيا أو ميتا ، ماركس ، نيتشه ، سارتر ، فوكو ،
وبعض الفلاسفة الآخرين الذين نصنفهم تحت يافطة ” فكر 68 ” ـ هو فعل خطير وبمثل
خطورة تدمير الشأن السياسي ويندرج في نفس المسعى الشمولي الرامي لإعادة الأمور إلى
ما كانت عليه.
إنني أود طامعا بطبيعة الحال أن يكون لدى
المثقفين كلهم ، وأن يكونوا دائما في مستوى المسؤولية التاريخية الكبرى الملقاة
على عاتقهم وأن يجندوا في إطار أفعالهم ونشاطاتهم لا سلطتهم المعنوية وحدها ،
وإنما أيضا قدرتهم وكفايتهم الفكرية على طريقة بيير فيدال ناكي ـ على سبيل المثال
لا الحصر ـ الذي وظف كامل اقتداره وتحكمه في المنهج التاريخي في نقد الاستخدامات
المتعسفة للتاريخ (2). وهذا يعني كمناسبة لذكر كارل كراوس أن ” ما بين وجعين ،
أرفض أن أختار أخفهما ” ، وإذا لم أكن قط متساهلا مع المثقفين ” غير المسؤولين ” ،
فغنني لا أحب أيضا هؤلاء المسؤولين ” المثقفين ” المتعددي الأشكال والتآليف في
ميادين مختلفة الذين يبيضون بضاعتهم السنوية في ما بين مجلسين للإدارة وثلاثة
كوكتيلات صحافية وبعض مناسبات الظهور على شاشة التلفزيون .
باريس ، ديسمبر 1991 .
———————————
(1) ” المعاناة ”
خطوات البحث في العلوم الاجتماعية ، 90 ديسمبر 1991 ، عدد الصفحات 104 و ب. بورديو
وآل ” بؤس العالم ” باريس ، منشورات سوي 1993 .
(2) ب. فيدال ـ
ناكي : ” اليهود ـ الذاكرة والحاضر ” ، باريس ، لاديكوفيرت ، المجلد 1 ، 1981 ،
المجلد 2 ، 1991 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق