طه عبد الرحمن يصدر كتابه الجديد بعنوان
"روح الدين"
كنتُ مُوقناً منذ قرأت كتاب طه
عبد الرحمن:» سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية» قبل أكثر
من عشر سنوات، أنّ الأستاذ سيكتب كتاباً في فلسفة الدين؛ وبخاصةٍ أنه أَنْهى «سؤال
الأخلاق» بورقاتٍ عنونَ لها بفلسفة الدين. وكُتُب الأستاذ عبد الرحمن كتب حياةٍ
ومُعاناةٍ وتحقُّقٍ و»تزكية» بحسب تعبيره، ولذلك فإنها تتأخر في الصناعة، وتتأخَّر
في الصدور. لكنها عندما تصدر فإنها لا تترك مقالاً لقائلٍ فيما هي بسبيل بحثه
واكتناهه. ولأنها كتب رياضةٍ وتزكية؛ فإنّ القارئ الفاهم لا يبحث فيها عن المعارف
الحديثة المعروضة- رغم أنها جمّةٌ ومبسوطةٌ-، بل يكونُ التامُّلُ في العمق الجديد/
القديم والأصيل لهذه التجربة الغنية والهائلة على مدى العقود الأربعة الماضية.
مشكلة طه عبد الرحمن وإشكاليته
كانت وما تزال مع ثقافة التدهُّر التي تسودُ العالم منذ آمادٍ وآماد، وهو يرمُزُ
إليها بالعلمانية، ويصفها بالضيق والمحدودية والقصور؛ وتقابُلها عنده أخلاق الثقة
التي ينشرها الدين، وهو يسمّيها الائتمانية، أو أنه عالَمُ الأمن والأمان القائم
على التواصُل بين قطبي الغيب والشهادة في الوجود الكوني والإنساني.
يبدأ الأستاذ طه عبد الرحمن
كتابه الجديد: روح الدين(2012) ببابٍ في الوجود الإنساني المزدوج بين عالمي الروح
والمرئي. فالإنسان كائنٌ مُتَعَدٍ ومشترك في الأصل والفطرة. وبذلك فإنه يختلف في
خطته لهذا الكتاب عن خطته لكتاب الأخلاق، والذي كان قد بدأه ببحثٍ في تأصُّل
الأخلاق على الدين. بيد أنّ هذا الاختلاف المنهجيَّ ما يلبث أن يتضاءل عندما يصير
إلى قراءة «العمل الديني وممـارسة التشهيد» بمعنى الشهـادة بالأُلوهية والشهادة
بالوحـدانية، والعهد بالتعبُّد (= أَلَسْتُ بربكم). فالتكامُلُ – وليس الأزدواج-هو
أساسُ هذا الأمر الوجودي الإنساني، وهنا يتجلَّى ذاك اللقاء الكبير مع الأخلاق في
سَعة الائتمانية. والذي أعنيه بهذه المسألة القيمية والأخلاقية، أنّ الأستاذ –
وبعكس كتبه الأُخرى التي تتميز بالتورُّع والتجريد – سُرعان ما يدخل في موضوع»
العمل السياسي» وكيفيات ممارسة التغييب،( أو لم يكتب أرسطو السياسيات بعد
الأخلاق؟). والتغييب هو استبعاد العامل الروحي والتزكوي لصالح حُبّ التسيُّد(=
التسلُّط) وشهواته. وهذه هي علة قصور العلمانية ومقتلها. فالعلمانية تعتبر التدين
وضعاً يتعلق بدواخل الأفراد، فتُدخل العمل الديني في الدائرة الخاصة، وتترك
الدائرة العامة مجالاً للعمل السياسي. ويؤدي ذلك بوعيٍ أو بدون وعي إلى أمرين
يفترضان مستحيلين: التسيُّد أو التربُّب باعتبار التفرُّد، ونفي التدبير عن الدين،
والتعبُّد عن السياسة. والحقُّ كما يراه الأستاذ عبد الرحمن أنّ هناك تداخُلاً بين
الدين والسياسة، باعتبار أنّ الدين نهجٌ أخلاقيٌّ تزكويٌّ يشكّل وازعاً في التدبير
الدنيوي والسياسي يُخرجُ من أَوهام التسيُّد، كما أنّ السياسة أو تدبير الشأن
العامّ، إنما تُصبح إنسانية وحسْبيةً في الوقت نفسه إن تواصل في نطاقها الروحي مع
المرئي والمادي والعامّ. ومن هنا يأتي اعتراض الأستاذ على الشعارات السائدة بين
الإسلاميين اليوم من مثل الإسلام دينٌ ودولة، والإسلامُ دينٌ ودنيا، والدولة
الإسلامية دولةٌ مدنية. فالدين نهجٌ روحي وأخلاقي أو أفقٌ في رؤية العالم وتدبيره،
وليس فرضاً من خارج على الدولة وإدارة الشأن العام. وبهذا المعنى لا يصحُّ افتراضُ
التمايُز بين الدين والدنيا لأنّ هذا ليس هو الموضوع، كأنّ الدين هو الروحي،
والدنيا هي المادّة. وبهذا المعنى أيضاً لا يصح اعتبار الدولة الإسلامية مدنية أو
حتّى دينية. فهذه جميعاً مقولاتٌ المقصودُ بها أن تكونَ ردَّة فعلٍ على تحديدات
العلمانية وتسلُّطاتها وانفصالياتها. في حين تسير حياة المسلم بسلاسةٍ وتواصُلٍ
بين الخاصّ والعام، والروحي والمادي، وتكونُ أخلاق التورُّع والتزكية حائلةً دون
التسيُّد ودون اعتبار الدين قانوناً يُفرضُ من الخارج. وللأستاذ في هذا المجال
الرحْب اجتهاداتٌ مُختلفةٌ بشأن مصطلحي الحكم والأمر والحاكمية والآمرية، يخالف
فيها مصطلحات الإسلاميين وأفهامهم، ومصطلحات خصومهم وأفهامهم.
وإذا كان الأستاذ قد نقد رؤية
الحاكمية أو نظريتها لدى الإسلاميين السُنّة باعتبارها ردّة فعلٍ متشنجة على
العلمانيين، واعتبار الدين قانوناً مفروضاً من خارج (= نوموقراطية؟)؛ فإنه ينقد
أيضاً وبقوة مبدأ تفقيه السياسة أو رؤية ولاية الفقيه. فالمشكلة في نظره ليس أنه
لا يجوز أن تسود قيم الدين وأحكامه في الدولة والمجتمع؛ بل في أنّ» الفقيه الصناعي»
(ولهذا التعبير عنده فذلكة طويلة) يستمد شرعيته في «الولاية العامة» باعتباره
نائباً عن الإمام، وفي أنه يحصر مهمته في «تطبيق» أحكام الشريعة باعتبارها قانوناً
هو المختصُّ دون غيره بتطبيقه. وهكذا فإنّ نزعة التسيُّد أو التربُّب أو التسلُّط
تسودُ لدى إسلاميي أهل السنة والشيعة في الأزمنة المعاصرة، فلا يختلف الأمر كثيراً
عن نزوع التسيُّد والتحكُّم لدى علمانيي الدول القومية والوطنية.
يحاكم طه عبد الرحمن العلمانيين
والإسلاميين إذن معاً إلى مفهومه الصوفي أو التزكوي أو الأخلاقي للدين. يقول
للعلمانيين إنّ الإنسان كائنٌ دينيٌّ أو أخلاقيٌّ، يتلاقى فيه الروحي والمادي.
ولأنّ العلماني يريد اجتثاث الدوافع والوشائع الدينية والأخلاقية من المجال العام؛
فإنه يدهّر المجتمع والدولة، ويدفع باتّجاه سيطرة نزعة التسيُّد والسلطوية التي لا
تستقيم معها الحياة الإنسانية الخاصة والعامة. ويقول للإسلاميين المعاصرين سنةً
وشيعةً إنّ الدين- بخلاف ما يقوله العلمانيون – له وظائف تدبيرية، لكنها تستند إلى
دوافع أخلاقية وتزكوية، بينما هم يحوّلون الدين إلى قانون يستخدمونه (باسم الله أو
الإمام أو الشريعة) للاستيلاء على الدولة والمجتمع. وهو يخوضُ طويلاً في التفرقة
بين»الفقيه الحي»، والفقيه الصناعي»، وفي التاريخ والحاضر. والفقيه الصناعي هذا هو
الذي حوَّل الدين إلى رسومٍ وقوانين وأوامر للتنفيذ بعيداً عن أخلاق التصفية
والتزكية. وبذلك فإنّ نقده( وهو هنا وللمرة الأولى يتعاطى مع السياسة المباشرة أو
إدارة الشأن العام) هو نقدٌ منهجيٌّ وأخلاقيٌّ يشبه في منحاه القديم نقد الغزالي
للفقه والكلام في الأزمنة الكلاسيكية. أمّا في الأزمنة الحديثة فإنّ نقده هذا يشبه
نقد التأويليين لعقلانيات وماديات القرنين التاسع عشر والعشرين.
لقد أذهلتْني مقاربة الأستاذ طه
عبد الرحمن النقدية والتي مضت إلى أبعادٍ ما بلغها أحدٌ من قبل. ولا أُريدُ في هذه
العجالة مناقشة مفهومه للدين، ولا العالم المصطلحي الذي بناه بصبرٍ ودأَب ( لأنه
لا مشاحّة في الإصطلاح)؛ بل لديَّ مسألتان أرى أنهما بالغتا الأهمية. تتصل الأُولى
بمفهوم الولاية عنده،وتتصل الثانية بمفهومه للسياسة وعلائق السياسة بالتعبُّد
والاحتساب. لقد وقع المتكلمون والفقهاء المسلمون في مزالق كثيرة، لكنهم في كلِّ
الأحوال- وبخلاف المتصوفة- ما زلُّوا في فهم الولاية والولاية العامة. فالمتكلم
كسر إلى الأبد نزعة التسيُّد بمقولة التنزيه. والفقيه تنكَّر لكلّ ولايةٍ سلطويةٍ
بالقول إنه معنيٌّ فقط بتنزيل الأحكام على الوقائع استناداً للكتاب والسنة
والإجماع. أمّا كبار العارفين من الصوفية، ومن «ختم الأولياء» للحكيم الترمذي،
وخلع النعلين لابن قسي، وإلى «التدبيرات الإلهية للمملكة الإنسانية» لابن عربي؛
فإنّ الولاية عندهم لا تقلُّ هُولاً عن ولاية الإمامة المعصومة عند غُلاة الشيعة.
وهي في الفناء والبقاء تسيدية وخلودية في الله وعلى الأرض. وليس صحيحاً أنّ
التشيُّع الصفويَّ( وحتى العلوي عند شريعتي) رفض التصوف والصوفية؛ بل إنّ الولاية
التكوينية المليئة بالاسرار ظلّت مستند أهل العرفان من السُّهروردي والشيرازي
وميرداماد وإلى الخميني.
ولنصل إلى السياسة والسلطة. لا شكَّ أنّ منظومة القيم القرآنية تتضمن جوانب تدبيرية. إنما الاختلافات هنا هي اختلافاتٌ مجاليةٌ إذا صحَّ التعبير. فالدين قائمٌ على دخلنة القيم لدى الأفراد. والمجتمع يحتضن الدين والشريعة في الشؤون التعبدية والحسْبية والتدبيرية. وقد استشهد الأُستاذ طه عبد الرحمن بمختصر» الرعاية لحقوق الله» الذي وضعه عز الدين ابن عبد السلام لكتاب المحاسبي(- 243هـ). والمحاسبي يقول إنّ العقل غريزة. والناس يتساوون فيها. وإذا كان العقل الفردي له سلطةٌ تدبيريةٌ على الأفراد؛ فإنّ» عقل الجماعة» أو العقل الجمعي له سلطةٌ تدبيريةٌ في نطاق الجماعة. وهكذا تكون السلطةُ، سلطةُ «العقل عن الله»- بحسب المحاسبي- شائعةٌ في الجماعة، وتكون الجماعةُ هي مصدرها في تدبير شأنها المصلحي والعام، وليس في الشأن العبادي المستند إلى الوحي المباشر. إنّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر بما تؤدّي إليه أو تدفع باتجاهه لدى الفرد، أما الشأن السياسيُّ العامُّ فهو حقٌّ بحتٌ للجماعة، لأنه شأنٌ مصلحيٌّ مُدْرَكٌ من سائر الناس بعقولهم، وهم يمارسون حقَّهم في إدارته، ولديهم الوازع الديني والأخلاقي والحسْبي. فالجوانب التدبيرية أو العامة أو السياسية في الدين هي بهذا المعنى، أي أنها إمكانيةٌ وأفقٌ واختيار،، وليس أنّ الإسلام/ الدين يملك نظريةً أو مذهباً محدَّداً في ممارسة السلطة أو التدبير كما يقول الإسلاميون الذين يريدون السيطرة على الناس بحجة تطبيق الشريعة. وهذا الأمر هو الذي جادل فيه إمامُ الحرمين الجويني(-478هـ) الماوردي( -450هـ). المارودي قال في» الأحكام السلطانية» إنّ الإمامة واجبةٌ بالعقل والنقل. والجويني قال له: بل هي واجبةٌ بالإجماع دون غيره، لأنّ السلطة التدبيرية هي حقُّ الجماعة. ثم أضاف: إنّ موضوع الإمامة هو موضوعٌ مصلحيٌّ وليس موضوعاً تعبدياً، ولذا لا شأن للمتكلمين به، بل هو شأن الفقهاء! وقد ذكر الأستاذ طه عبد الرحمن في حاشيةٍ في «روح الدين» إنّ رؤيته في «الولاية» والأخلاق التزكوية لا تختلف على نحوٍ ما عن نظرية محمد مهدي شمس الدين في»ولاية الأمة على نفسها». وأنا أرى أنّ رؤية محمد مهدي شمس الدين هي أصلٌ في هذه المسألة، أي أنّ الأمة هي صاحبة السلطة أو مصدرها، وبدون توسُّطٍ من أيِّ شيئٍ أو شأنٍ آخَر. وما دامت كذلك وهي الملتزمة بالوحدانية والعهد والشريعة، فلا يمكن أن تكون تسيدية أو تسلطية. فيا أيها الأستاذ الكبير: لو أنّ محمد مرسي أو الغنوشي أو بنكيران أو البشير..الخ قالوا لنا إنهم آتون للتدبير بمقتضى الأخلاق التزكوية التي أورثهم إياها التريُّض بقيم الإسلام، فهل يكون علينا القول بولايتهم؟! لا سلطة ولا تدبير في الشأن العامّ إلاّ لجماعة المسلمين. أمّا الدين وشريعته وأعرافه المستقرة فهي أمانةٌ لدى المجتمع نفسِه، والشريعةُ مطبَّقةٌ بحذافيرها من خلال دخلنة المجتمع لتعبدياتها وحسبياتها، ولا نحتاج – نحن أمة محمد- إلى هذا أو ذاك ليفرض علينا تطبيقها!
لا خطر على الدين من العلمانية
والعلمانيين وسائر المتدهّرين الآن. وإنما الخطر من هذا التسييس للدين، والذي صارت
له أحزابٌ اخترعت نظريات طويلة وعريضة طوال العقود الماضية، وكسبت جمهوراً عريضاً
من طريق المعارضة لأنظمة التسيُّد الخالدة . وها هي تبرز في أزمنة الثورات، وتكسب
أصوات الجمهور، وتُمعنُ في استخدام الدين بشعاراتٍ مُوهمة وشعبوية. فالذين عندها
أيديولوجيا والمرشد قائمٌ على هذه الأيديولوجيا. وهذا خَطَلٌ يتهدد الدين ووحدة
المجتمعات بأشدّ الأخطار.
كتاب طه عبد الرحمن في فلسفة
الدين كتابٌ عظيم. ويكون علينا العمل بجدّ على صَون أدياننا في أزمنة التغيير. ونحن
واثقون بضمان الله عز وجلّ ورسوله صلوات الله وسلامه عليه أنّ السبيل الحقَّ هو
سبيل المؤمنين، وأنّ أمتنا لن تجتمع على ضلالةٍ لا في الدين ولا في الدنيا!
عن يومية "الحياة"
اللندنية، عدد 21 يوليوز 2012.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق