السبت، 21 نوفمبر 2015

الرئيسية مفهوم الباراديغم وانتقالاته في العلوم الدقيقة والإنسانية

مفهوم الباراديغم وانتقالاته في العلوم الدقيقة والإنسانية

مفهوم الباراديغم وانتقالاته في العلوم الدقيقة والإنسانية

محمد مريني

مـدخــل

1) من البديهي أن موضوع تحديد المفاهيم يشكل أحد الانشغالات الأساسية في الفكر الحديث. وإذا كان المفهوم يلم عناصر وأجزاء تصور ما؛ من خلال عملية تراكم لتصورات تتحصل في الذهن في واقع الممارسة العلمية والفكرية، فإن المصطلح هو الذي يسمّى المفهوم، ويخرجه إلى عالم التواصل اللغوي، في حقل من الحقول المعرفة الإنسانية. إلا أن هذه العملية التداولية كثيراً ما تشحن المصطلح بدلالات قد تكون مفارقة للمفهوم الذي وضع له في الأصل. من هنا تأكيد الكثير من النقاد والمحللين الإبستيمولوجيين أهمية تحديد المصطلحات والمفاهيم: فمن الشروط التي وضعها فريج Frege للخطاب العلمي؛ أن تكون الأداة الاصطلاحية الموظفة محددة البنية، واضحة المعالم(1). كما وضع هايد ڠوثنر Heid Göthner ثلاثة مقاييس لتحديد طبيعة الخطاب النقدي. يهمنا منها المقياس الثاني، الذي ركز فيه على: «دقة اللغة الاصطلاحية الواصفة»(2). أيضاً طرح الباحثون ضرورة تحديد الموضوع، في علاقته بالمفاهيم الأساسية: فـ «الخطوة الأولى في كل بحث علمي هي تحديد الموضوع والتعرف على طبيعته»(3). لذلك سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على أحد المفاهيم المتداولة في الفكر المعاصر؛ يتعلق الأمر هنا بمفهوم الباراديغم(4) paradigm الذي نظر له الفيلسوف الأمريكي طوماس كون Thomas Kuhn (1922ـ1996).

2) وإذا كان هذا المفهوم قد تبلور أساساً ضمن الأعمال التنظيرية التي اشتغلت على تاريخ العلوم الدقيقة، فقد كانت له امتداداته في حقول معرفية إنسانية عديدة. أما الفكرة التي نروم إثباتها من خلال هذا المقال فهي أن هذا المفهوم الذي عبّر عنه كُون بـ الباراديغم، قد عبّر عنه مفكرون ونقاد وفلاسفة آخرون بصيغ ومفاهيم أخرى في مجال العلوم الإنسانية المختلفة؛ مثل مفهوم النسق، مفهوم العقل المكوّْن، مفهوم الهابيتوس، مفهوم الرؤية للعالم، مفهوم روح العصر، مفهوم الأبيستيمي…إلخ. وعلى الرغم من وجود اختلافات أساسية بينها وبين مفهوم الباراديغم سواء من حيث الأسس الفلسفية التي تقوم عليها، أم من حيث الأدوات الإجرائية التي تتوسل بها فإنه من المؤكد وجود نوع من التشارك المفاهيمي بينها وبين مفهوم الباراديغم.

3) إن هذا المفهوم الذي نظر له كُون يندرج ضمن تاريخ العلوم الطبيعية؛ ما سنقوم به عبارة عن تتبع وبحث استكشافي لمجموعة من المفاهيم التي تناولت هذا الموضوع، من داخل حقل العلوم الإنسانية: يمكن تتبع مفهوم الباراديغم في النقد الأدبي الحديث من خلال الدراسات التي كانت معنية بالبحث عن التحولات المتعاقبة التي تطرأ على المادة الأدبية. كما يمكن البحث عن هذا المفهوم في علم الاجتماع من خلال النظريات التي ركزت على المخططات والأنساق الفكرية التي غرسها المحيط الاجتماعي داخل الفرد في زمان ومكان معينين. كما سنتتبع مفهوم الباراديغم في تاريخ الأفكار انطلاقاً من بعض النظريات التي ركزت على الشروط القبلية التي تنظم المعارف والمفاهيم وطرق التفكير في عصر من العصور.

I. الباراديغم في العلوم الدقيقة

1. شروط الإمكان

1) ظهر مفهوم الباراديغم في صيغته التنظيرية المتكاملة في كتاب طوماس كون (بنية الثورات العلمية)(5)، سنة 1962. لقد كان الفكر الغربي قبل هذا التاريخ يعتبر الفرد مبدأ النظر والعمل. وذلك بعد أن تأسست الثقافة الفردية في الغرب، في كتابات توماس هوبز T.Hobes (1588-1679)، وجون لوك J.Locke (1632-1704)، وجان جاك روسو J.J. Rousseau (1712-1778)، وغيرهم من الفلاسفة الذين نظّروا لمفهوم “العقد الاجتماعي”؛ الذي أصبح فيه الفرد صانعاً للمجتمع المدني وللدولة على السواء؛ مما سيرسخ مفهوم الحرية الفردية، كقيمة اجتماعية، إبان عصر النهضة بعد انهيار الإقطاع، ونشوء الطبقة البرجوازية.

2) على النقيض من هذا النوع من التفكير، يبرز كُون أثر العوامل الاجتماعية والنفسية في تفكير العلماء؛ بحيث تكون النظريات العلمية وليدة هذه العوامل والمؤثرات، أكثر مما هي وليدة تجارب وملاحظات يقوم بها العالم. إن العلم لا يتغير من منظور كُون بواسطة فرد بحد ذاته، بل بواسطة متحد من العلماء، أي مجموعة من العلماء الذين يشتركون في تقاليد وقواعد مستمدة من نظرة واحدة إلى العالم. من هنا يؤكد كُون أن الباراديغم ليس فردياً؛ وإنما هو جماعي.

3) إن الفكرة الأساس التي يقوم عليها مفهوم الباراديغم عند كُون هي أن ممارسة البحث العلمي مشروطة بمجموعة من الأعراف الذهنية، والالتزامات السلوكية، التي تخضع لها الجماعة العلمية التي ينتمي إليها الباحث. إن العلماء والباحثين في مجال العلوم الدقيقة يمارسون عملية البحث العلمي، وهم مؤطرون ضمن جماعات ومؤسسات تحكمها قوانين معنوية ومذهبية معينة. تفرض هذه القيم معاييرها الخاصة على الأطراف الفاعلة في الجماعة العلمية؛ بحيث يشتغل في ضوئها العلماء في بناء النظريات العلمية، وفي تأكيد المواقف من النظريات الأخرى، سواء أكان ذلك في الجامعة، أم في المختبر، أم في النادي العلمي، أم في غيرها من المؤسسات، والمراكز العلمية التي تحتضن الباحث.

2. الأصول

قبل الحديث المفصّل عن مفهوم “الباراديغم” عند كُون، نقف عند مفاهيم أخرى تحمل هذا المضمون الدلالي نفسه:

1) فقد تحدث ألكونا Y. Elkana عن “ظاهرة الاكتشافات المتزامنة”؛ وبيّن أن الاكتشافات العلمية الكبرى تنبثق عن خلفية فكرية مشتركة، يتقاسمها باحثون من الحقل العلمي نفسه. لذلك فهم يطرحون فرضيات متقاربة، تخضع للبحث والتحليل والاختبار والتعديل.

2) كما وقف لودڤيك فلك Ludwisk Fleck عند ما يسميه أسلوب التفكير للدلالة على الأفكار التي تتقاسمها جماعة علمية معينة. إن أسلوب التفكير الذي يتم التعبير من خلاله عن النظريات العلمية هو إنشاء جماعي، وليس شأناً فردياً.

3) أيضاً اهتم مايكل پولاني Michael Polanyi بما سماه المناخ الفكري المتميز. إذ في كل فترة تسود في نظر بولاني رؤية علمية يمارس العلماء من خلالها البحث. كما تسود فرضيات بأن كل معطى علمي لا يساير الرؤية العلمية السائدة لا يمكن إلا أن يكون خاطئاً. لذلك ينبغي استبعاد المعطى المذكور، أملا في أن يكون هذا المعطى غير صحيح.

4) كما أن ستيفن طولمين Stephen Toulmin أكد أهمية المناخ الفكري في تأطير البحث، وتوجيه الأفكار وتقديم الفرضيات. لذلك يرى أنه من الضروري في دراسة تاريخ البحث العلمي البحث عن الباراديغمات التي تستند إليها جماعة العلماء لجعل الطبيعة قابلة للفهم. إن العلم لا يتقدم إلى الأمام بتقديم أفكار وملاحظات جديدة، فحسب، وإنما بإعطاء دلالات معينة لهذه الأفكار. لذلك فإن نتائج البحث العلمي تنطبع بالمناخ الفكري الذي يسود في المؤسسات العلمية.

5) أيضاً تحدث جيرار هولتن Gerald Holton عما يسميه الافتراضات العلمية أوالاستلزامات التيمتية التي تؤثر في مسار العلوم. إن الفاعلية العقلية للعالم لا تشتغل في فراغ، وإنما تكون مسنودة بالخلفية الفكرية التي تؤطر عملية التفكير: على مستوى السببية، والانتظام، وقابلية الطبيعة للمعرفة العقلية.. وغير ذلك من الأفكار والفرضيات التي تطبع مسار البحث من البداية إلى النهاية.(6)

3. الامتدادات

1) لكن، يبقى العالم الأمريكي كُون هو الذي أفرد لمفهوم “الباراديغم” حيزاً خاصاً؛ من الناحية النظرية والتطبيقية. إلى درجة أن اسم كُون عادة ما يقترن بهذا المفهوم، والعكس صحيح. يعني كُون بهذا المفهوم؛ مجموع المعتقدات والقيم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين أعضاء جماعة معينة، والتي تستعمل كأساس لحل الألغاز المتبقية في نطاق البحث العلمي. لذلك يرى كُون أن التقدم في البحث العلمي لا يسير بشكل متواز مع التنظير. إذ إن التقدم العلمي ليس مجرد تجميع للحقائق فحسب، بل هو عملية تبرز في التغيير النوعي في بنية الأنساق النظرية. فإذا كان هدفنا هو الوصول إلى خلاصات هامة تتجاوز ما هو متعارف عليه فلا يمكن تحقيق ذلك بالاعتماد على الجانب التجريبي دون ضبط للجانب التنظيري، وإلا باتت بنية الأنساق النظرية جامدة وفقيرة، مثلما هو الحال في علم الاجتماع الأمريكي الذي يفتقد إلى الأسس النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية، وفي الربط بين خيوط الظاهرة.

2) لقد ظهر مفهوم “الباراديغم” عند كُون بشكل أساس في كتابه (بنية الثورات العلمية)، إذ فيه يخضع مفهوم “الباراديغم” لتأطير نظري عميق ودقيق. لكن الملاحظ أن كُون استعمل في كتب سابقة مفاهيم أخرى، تحمل المضمون الدلالي للبارادايغم. من بين هذه المفاهيم: مفهوم “الإطار المفهومي”، و”الوسط الفكري الأوسع”، و”المناخ الفكري الأوسع”.. إلخ.

4. الباراديغم عند طوماس كُون

الماهية والخصائص

1) يمكن تدقيق أهم خصائص الباراديغم عند كُون بالطريقة التالية:

أ. الباراديغم ليس فردياً؛ وإنما هو جماعي، يمكن اعتبار تصور كُون هنا تقدماً في مجال التفكير الأوروبي والغربي على السواء. لقد كان هذا الفكر يعتبر الفرد مبدأ النظر والعمل. وذلك بعد أن تأسست الثقافة الفردية في الغرب، في كتابات لوك وهوبز عن العقد الاجتماعي، الذي أصبح فيه الفرد صانعاً للمجتمع المدني وللدولة على السواء.

ب. ليس الباراديغم واقعياً على نحو مطلق؛ إذ ليس الكون هو المرجع الأخير والمطلق الذي تقاس إليه النظريات دائماً.

ج. ليس الباراديغم نظاماً تراكمياً من المعارف الجزئية كما هو الحال بالنسبة للرأسمال مثلاً، ذلك أن العلم ليس خطا متصلاً مؤلفاً من مراحل وأجزاء وإنجازات لا انقطاع بينها.

د. لا يتغير العلم بواسطة فرد بحد ذاته، بل بواسطة متحد من العلماء، أي مجموعة من العلماء الذين يشتركون في تقاليد وقواعد مستمدة من نظرة واحدة إلى العالم.

هـ. تتحقق بداية التغير في العلم بحصول نظرة جديدة إلى العالم.

و. يتحقق التطور العلمي عبر ثورات علمية متلاحقة، ولكل ثورة نموذجها المعرفي الخاص، المستمد من نظرة جديدة إلى العالم، والمتجسد في الحقل المعرفي لمتحد العلماء.

ز. يؤكد كُون الطابع التاريخي لمفهوم الباراديغم؛ إذ ينشأ عن الإحساس عند العلماء العاملين في مجال البحث العلمي بوجود أزمات. وتحدث الأزمة عندما يفاجأ هؤلاء العلماء بظاهرة غير متوقع ظهورها، ولا يقدر العمل العادي على شرحها. هنا يحصل انقسام المتحد العلمي إلى فئتين: يتشبث أولهما بالباراديغم القائم، في حين تتطلع الفئة الثانية إلى إبدال جديد، ويكون الحاصل ثورة علمية جديدة(7).

2) إن تاريخ العلم عند كون يسير على هذه الصورة: تصدر نظرية علمية ما وتحظى بقبول المختصين شيئاً فشيئاً، حتى تتحول إلى شبكة متكاملة من النظريات والتطبيقات والأدوات التي أصبحت تعطي الجواب الحاسم في مجالها، ويصبح الغالبية من العلماء يفكرون من خلالها، وينشغلون في داخلها. هكذا تصبح النظرية في هذه الحالة إبدالاً، أي نموذجاً للاحتذاء داخل الجماعة من العلماء، وإلا يتم استبعادهم وتجاهلهم. تستمر الأمور على هذه الحال حتى يبدأ هذا الباراديغم في التأزم حين يصبح عاجزاً عن الإجابة على أسئلة معينة. في البداية يتم الالتفاف على هذه الأسئلة من أجل الإبقاء على الباراديغم. لكن، مع ظهور باحثين جدد، ومع تزايد الأسئلة تحين الثورة العلمية التي تبدأ بتصورات ونظريات خارج إطار الباراديغم السابق بل ومعارضة له، وتحمل تصوراً للكون والمجال يختلف عن التصور السابق، وبهذا يتكون إبدال جديد… وهكذا. وتسمى المرحلة التي يتعثر فيها بناء النظرية الجديدة مرحلة ما قبل الباراديغم. كما تسمّى أيضاً مرحلة ما قبل العلمية. عندما يتشكل نظام معرفي جديد، فإن هذا يعني تحقق تحول الباراديغم. يستعمل كُون أحياناً مصطلحات أخرى مثل الثورة العلمية.

3) هناك أمثلة كثيرة للتدليل على تحول الباراديغم، أو الثورة العلمية بالمعنى الذي استعمله كُون، منها ما يلي:

أ. التحول من الرؤية البطلمية (نسبة إلى بطليموس)، إلى الرؤية الكوبرنيكية (نسبة إلى كوبيرنيكوس).

ب. تحويل الفيزياء الكلاسيكية على يد نيوتن إلى رؤية ميكانيكية متماسكة للعالم.

ج. التحول من فيزياء نيوتن إلى نسبية آينشتاين.

د. ظهور نظرية داروين في التطور عبر الاصطفاء الطبيعي، بدلاً عن رؤية لامارك التي ترى وراثة الصفات المكتسبة.

4) لقد كان مفهوم التطور في العلوم الطبيعية خاضعا لتصور آخر قائم على الضرورة العقلانية: بمعنى أن الانتقال من نظرية علمية إلى أخرى يتم بالضرورة نتيجة لاكتشاف معطيات جديدة. إن التطور العلمي من منظور هذا الاتجاه قائم على فعالية منطقية ومتعالية غير خاضعة للمؤثرات السوسيولوجية والثقافية والمؤسسية. وفقاً لـ كارل پوپر مثلاً فإن اكتشاف خطأ النظرية العلمية السابقة، يكون أساسا لظهور النظرية العلمية الجديدة. إن تحول النظريات العلمية هنا يخضع لمقولات “الصدق”، و”الحقيقة”، ويعتمد أساساً على الممارسات التحليلية القائمة على “الاستنباط”، و”الاستقراء”، و”التحقق”. كما يتطور العلم أيضاً وفق فكرة التقدم التراكمي المتصل.

5) في حين ينطلق كُون من تصور مخالف؛ فقد جاء بتحليل ينظر إلى العلم كفاعلية لأفراد مؤطرين ضمن “مؤسسة علمية”، خاضعة لالتزامات مذهبية وقوانين مؤسسية. لذلك فإن كون يهون من دور المنطق الصوري، والتحليل العقلاني في نمو المعرفة العلمية. إن هذا النوع من النمو يتحقق من خلال جملة من الشروط التي تحكم السياق الثقافي العام الذي تشتغل فيه الجماعة العلمية؛ هذا السياق الثقافي العام هو الذي يشرط عمليات البناء الاستدلالي من حيث أدوات التجريب، وإجراءات القياس، وطريقة استعمال الآلات، وآليات المراقبة، وتنظيم النتائج…إلخ.

هناك تعليق واحد:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.