الاثنين، 14 سبتمبر 2015

الرئيسية المرأة والجنس في المغرب

المرأة والجنس في المغرب

المرأة والجنس في المغرب


مقدمة

إن إحدى المهام الرئيسية الملازمة لكل مقدمة هي، حسب رأينا، مهمة الإزعاج والإقلاق. ذلك إن المقدمة لا تمد القارئ بمعلومات جاهزة وقابلة للاستهلاك النظري بقدر ما تطرح أمامه إشكالات تجعله يفكر ويتساءل ويبحث.
وحتى يتسنى لنا إن نكون مخلصين لهذه الفكرة، نبدأ بمساءلة الفلسفة اللاشعورية التي تقوم عليها دراستنا هذه، باعتبارها شرطا أساسيا من شروط قيامها وظهورها إلى الوجود. فمما لا شك فيه إن الهدف الرسمي لدراستنا هدف معرفي ونظري، بمعنى إنها تنطلق من اقتناع حقيقي بإمكانية تحليل الموضوع تحليلا علميا. وأكيد إن مثل هذا الاقتناع يندمج حتما في إطار الفلسفة الوضعية، باعتبارها النفس الإيديولوجي الذي يهيمن (مبدئيا) على المؤسسة الجامعية بأكملها. فلا شيء في نظر هذه الفلسفة يستطيع التمرد على قوة الخطاب العلماني أو على حتميته، حيث إن كل موضوع قابل للمعرفة وللتنظير. ومن هنا، يتبين لنا إن إقدامنا على بحث جامعي ضرب من الإيمان الموضوعي بالفلسفة الوضعية، ومساهمة في إرساء سيادة الخطاب العلمي والعقلاني.
وفعلا، لقد انطلقنا، في دراستنا بالمغرب، من مصادرة تقتضي إن هذا الموضوع قابل بدوره للتحليل الموضوعي والعلمي، بل هو في أشد الحاجة إلى ذلك، فليس الجنس هو الموضوع الوحيد الذي يتميز بالخصوبة والتعقد، وإن كان هو الموضوع الذي يعرف الكبت والتهميش بالأساس. ولعل هذا هو الدافع الأول الذي قادنا إلى مقاربة هذا الحقل الممنوع، مثل ذلك الطفل الذي لا يرتاح إلا إذا تحدى المنع. والواقع إن مقاربة هذا الحقل من طرفنا لا تنتج عن رغبة مجانية في تحد مجاني، وإنما هي وليدة رغبة في تعرية ميكانيزمات الاستغلال والقمع التي تهيمن عليه، بل والتي تؤسسه كحقل ملعون.
من البديهي إن صعوبات متنوعة واجهتنا طيلة هذا البحث، لكننا لم نرجعها أبدا إلى وقاحة الفلسفة الوضعية أو إلى طبيعة الموضوع (المحرم)، وإنما رأينا فيها دليلا على ضرورة تنويع الأساليب المنهجية والمعرفية في مقاربة الموضوع.
وفعلا، حاولنا، بصفة عامة، التأليف بين موقفين متعارضين، حسب النزعة الوضعية نفسها وبالخصوص، بين موقف فلسفي يستهدف الشمولية والتنظير وبين موقف سوسيولوجي يحاول الإصغاء إلى الواقع في تفاصيله اليومية والبسيطة. ومن ثمة، يمكن إدراك هذا العمل بمثابة تجاوز لموقف الفيلسوف الذي لا يأبى النزول إلى مستوى الواقع العيني من جهة، ولموقف عالم الاجتماع الذي يقف عند لغة الأرقام والملاحظات الجزئية. وبالفعل، حاولنا عدم الوقوع في الإعجاب الساذج بالتقنيات السوسيولوجية الميدانية، وبالتالي في مصيدة الإمبريقية، أي الواقع الذي يتحدث قبل ودون إن نوجه إليه السؤال. وبالمقابل، تجنبنا كذلك مزلقة المثالية التي تقتضي إن الواقع لا يساهم في إنشاء المعرفة، وإن العقل الفلسفي غنى عن إن يتلقى درسا من أعراض الواقع يساعده على إقامة النظرية الحقة.
ورغم هذا التنقل بين النظرية والواقع، أو على الأصح بفضل هذا التمزق نفسه، لم نستطع أبدا التوصل إلى هدوء الفيلسوف عند تحقيق النسق système أو إلى فرحة عالم الاجتماع عند ترييض mathématisation الإنسان. فالجنس يطرح على الفيلسوف قضية أبعاده الأنتربولوجية، ويطرح على عالم الاجتماع السؤال الميطافيزيقي : ماذا وراء كل بحث وضعي عن الجنس ؟ وماذا وراء الجنس؟
وأكيد إن المشكل أكثر حدة بالنسبة لعالم الاجتماع، باعتباره الإنسان الذي يدعي القدرة على إنتاج خطاب علمي، قابل للمراقبة، حول الجنس. إن علاقة عالم الاجتماع بالجنس ليست علاقة مباشرة وواضحة، بمعنى أن " خطابه العلمي" ينطلق حتما من خطاب لا علمي ويتوسطه خطاب أصلي وأول، نجده إما في النظريات الاجتماعية حول الجنس، وإما في الإيديولوجيا الوضعية التي تحرك عالم الاجتماع دون إن يعي ذلك في غالب الأحيان. وبديهي إن الأمر لا يدرك على هذا النحو من طرف عالم الاجتماع المؤمن (بعلمية خطابه)، حيث يعتبر تقنياته المنهجية حصانة ضد الإيديولوجيا وأداة محايدة للوصول إلى العلم وإلى التخلص من كل العوائق الإبستمولوجية. أليس في هذا الموقف وقوع في مغالطة مزدوجة؟ فمن جهة يضع عالم الاجتماع نفسه خارج أو فوق المجتمع المدروس وبالتالي فإنه يتوهم في نفسه القدرة على التحكم في كل الرواسب الإيديولوجية. ومن جهة أخرى، يعتقد إن أساليب الاقتراب الوضعي لا تحمل في ثناياها خطابا ضمنيا (لامعقلنا ومكبوتا) عن الجنس، يجعله شيئا قابلا للقياس الرياضي. وبتعبير أدق : هل يمكن الانتقال بموضوع الجنس من الإيديولوجيا إلى العلم؟ أليس ترييض الجنس انتقال به من إيديولوجيا إلى إيديولوجيا مغايرة فقط؟ إلى أي حد يمكن التمييز بين النظرية الاجتماعية والنظرية السوسيولوجية؟ ألا يجب إن نرى في هذه التساؤلات عقدة الفيلسوف التي تتستر وراء النقد الإبستمولوجي؟
أكيد إن دراسة الجنس لا تخرج، في إطار هذا البحث، عن تساؤلات اجتماعية وتاريخية معينة يمكن إجمالها في النقط التالية :
  • ما موقف الإسلام من الجنس ؟
- ما موقف السلطة من الجنس ؟
-ما موقف الشباب المثقف من الجنس ؟
هل يمكن القول إن قضية الجنس موضع صراع بين الإسلام وبين الشباب؟ ألا يمكن للشباب المغربي إن يعثر على شيء يرضيه في التصور الإسلامي حول الجنس؟ وهل للشباب موقف منسجم تجاه الجنس؟ ما مكانة السلطة من هذا الصراع ؟ هل للسلطة موقف واضح ومتماسك بصدد الجنس؟ هل تلعب السلطة دور الحكم بين الإسلام والشباب؟ تساؤلات يمكن إن تبدو ساذجة …
إن الاحتكاك بالفكر الغربي حوًل الاختلاف التقليدي في الحقوق – بين الرجل والمرأة – إلى ظاهرة سلبية تعبر عن اللامساواة، عن الاستغلال وعن التخلف. ومن ثمة، فإن العلاقة التقليدية بين الرجل والمرأة أصبحت بدورها مظهرا من مظاهر الأزمة الاجتماعية في المغرب، بحيث أصبحت بدورها قابلة للتغيير، بل خاضعة إلى ضرورة التطور نحو نموذج تعادلي وديمقراطي. فلا شيء يدل، في منطق هذا النموذج الجديد، على إن الوظائف والقيم التي احتكرها الرجل ترتبط بهذا الأخير من حيث هو بيولوجيا، بمعنى إنها ملازمة لطبيعته بغض النظر عن كل التحولات التاريخية الفعلية والممكنة. إن الموقف التاريخاني والعقلاني السائد اليوم اكتسح تدريجيا حقل الجنس، وشمل علاقة الرجل بالمرأة. فالمساواة، كقيمة عقلانية، مساواة بين المرأة والرجل كذلك : مساواة في الحقوق، الحق في التعليم، الحق في العمل، الحق في التصويت، الحق في السلطة، الحق في اللذة …
إن تاريخ سيادة الرجل ينحل في نهاية الأمر إلى سيادة ثلاث قيم: العقل والسلطة والمتعة. وبديهي إن عالم المرأة تشكل على نقيض هذه القيم الثلاث، فانقسم العالم إلى عالمين تطبعهما علاقة صراع واستغلال واضطهاد… لكن هذا الانقسام المعنوي للعالم كان يبدو طبيعيا ومشرعا، نظرا لكونه يتأسس على اختلاف بيولوجي غير قابل للمعالجة، وغير قابل للاختزال. فالمنظور البطريركي، باعتباره الأداة الذهبية السائدة عبر التاريخ البشري، تحول إلى نسق شبه طبيعي بعد ما حول الاختلاف البيولوجي بين المرأة والرجل إلى لا مساواة اجتماعية وإلى علاقة سيطرة واستغلال. والواقع إن منطق المنظور البطريركي لا يخلو من قوة لأنه يرى في التقسيم الجنسي للعمل استمرارا متوازنا للاختلاف البيولوجي الثابت. ومن ثمة، فإن تاريخ قمع المرأة تاريخ مشروع لأنه، حسب ذلك المنظور ، يرتكز على معطيات طبيعية غير قابلة للنقاش.
من المحتمل إن هذا النمط من التفكير مرتبط بضرورات المجتمعات العبودية والإقطاعية، ومنطق المجتمعات الماقبل رأسمالية بصفة عامة. ومن المحتمل كذلك إن تكون الثورة البورجوازية ثورة (جزئية) منفعية على المانوية الجنسية من حيث إنها أفرزت مبادئ الحرية والمساواة من أجل إدماج المرأة في مسلسل الإنتاج الرأسمالي. وبالطبع فإن ذلك الإدماج يعتبر مجرد تحرير للمرأة وليس استغلالا من نوع جديد وأعمق بالنسبة للكثير من المدافعين عن الثورة البورجوازية. بتعبير آخر، يمكن الحديث عن كبت وتهميش المحرك الاقتصادي باعتباره الدافع الأساسي والأول في كل خطاب عن تحرير المرأة .
على كل، أصبح الكل يطالب اليوم بمساهمة المرأة، نصف المجتمع، في وضع العقل، في إدارة السلطة وفي استهلاك اللذة. ويبدو جري المرأة وراء هذه القيم بمثابة انتصار لا مباشر للرجل لأن تلك القيم ارتبطت به. والواقع إن هذا الارتباط مجرد ظاهرة تاريخية لا علاقة لها بالحتمية البيولوجية. وبالمثل، فإن التزاوج بين مبدأ الإنتاجية ومبدأ المساواة بين الجنسين ارتباط ظرفي بدوره، الشيء الذي لا يقلل من قيمة المساواة في حد ذاتها.
تاريخ العلاقة بين الرجل والمرأة تاريخ يتجه إذن نحو التماثل، ضرورة القضاء على الفواق الاجتماعية المتولدة عن الاختلاف الجنسي. وفي سياق هذه الخلاصة، يمكن وضع السؤال التالي: كيف يمكن تأسيس التماثل انطلاقا من اختلاف غير قابل للاختزال différence irréductible ؟
سؤال فلسفي ؟ سؤال يضع إلى السوسيولوجيا، وإلى النزوع نحو التماثل تعبير عن رغبة العودة إلى حالة وحدة تماثلية أصيلة، تتجلى في أسطورة الخنثىMythe de l’androgyne ؟ هل الاختلاف البيو-تاريخي ملازم فقط للحضارات الإبراهيمية لكون ميطافيزيقتها الخفية ميطافيزيقية ثنائية مانوية ؟
إن طرح المشكل الميطافيزقي لا ينبغي إن يشل العمل النظري والاجتماعي من أجل عقلنة وتحرير الحقل الجنسي. ذلك إنه لا يمكن انتظار حل القضية الميطافيزقية لما للقضية الاجتماعية من مباشرة وحرارة. لربما يتضمن البدء بالتصدي إلى الجنس / القضية الاجتماعية موقفا من الميطافيزقا بشكل عام. وبالفعل ألا يمكن القول إن الميطافيزقا تشكل حقلا نبيلا وممارسة لا متناهية يتستر وراءها الرجل من أجل الاحتفاظ بامتيازاته؟ أليست الميطافيزقا الحقل الذي تترعرع فيه عقدة التفوق، عند الفيلسوف .. وعند الرجل.


"Femme et sexualité au Maroc", Casablanca, Editions Maghrébines, 1985, 175 pages (en arabe).

عبد الصمد الديالميالمرأة والجنس في المغرب
دار النشر المغربية، الدار البيضاء

1985


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.