الأربعاء، 18 مايو 2016

الرئيسية فصل جديد من الرواية المتوقعة/ الصورة المرفقة لعرق اليهودي/ تحية خاصة لأهل تاكونيت وزاكورة ومحاميد الغزلان

فصل جديد من الرواية المتوقعة/ الصورة المرفقة لعرق اليهودي/ تحية خاصة لأهل تاكونيت وزاكورة ومحاميد الغزلان

فصل جديد من الرواية المتوقعة/ الصورة المرفقة لعرق اليهودي/ تحية خاصة لأهل تاكونيت وزاكورة ومحاميد الغزلان
عرق اليهودي
رشيد يحياوي

 
يعبر الشاب الذي اسمه (حي) من الجانب المخضر من الجزيرة إلى الجانب الصحراوي منها/ في الفصول السابقة قصة عن أسماك نهرية تحج عبر البر نحو البحر، وعن كواسر تتحول إلى أسماك تسمى نقور، ومنها من يتحول عبر طقوس فيصبح كائنا رمليا مختلفا يغدو بعد ذلك شيخا للرمل.
واصل طريقه بمحاذاة البحر يوما كاملا، إلى أن لاح له في الصحراء مرتفع مشرف من بعيد على البحر، يتراقص مع سرابه ما يشبه بناءً بجدران عالية وأبراج، فانعطف نحوه. في طريقه نحو الحصن، حاذى كثبان رمل "اسمها عِرق اليهودي". نطق بعدما سمعهم يطلقون عليها هذا الاسم. 
قبل أن يفكر في مغزى ما سمعه، بدأ لغط وجلبة يتعاليان بين مجتمع الرمل. سمع حبة كبرى من حبات الرمل تحكي لصغيرتها عن اليهودي. أخبرتها أن الإله "يهوه" غضب على اليهودي بعدما رآه أطال الاستماع للقصص تحكيها الرمال لبعضها. كان خاطبه: فلتكن لك قصتك. عش قصتك، ولا تعش قصص مجتمعات الرمل.
ولأن اليهودي انشغل بتتبع قصص الرمل، زاد غضب يهوه عليه فأحدث بترا في القصة التي كان اليهودي يعيشها. لما انتبه اليهودي لنفسه، وعزم على مواصلة سيره في العطارة، يشتري من هذا ويبيع لذاك، اصطدم بالبتر في قصته ولم يعرف كيف يملأ فراغ البتر. فكان أن ضل طريقه وطفق يلف ويدور بين كثبان عِرق الرمل إلى أن أهلكه العطش. سمع إلهَه والروح تتحشرج في جوفه لتخرج: أمرتك أن تعيش قصتك. ألم تر الآخرين شرعوا في تحويلك إلى قصة يعيشون بها؟
أخذ مجتمع الرمل في المجادلات والخصامات. كانوا في طوائف أكثرهم عددا طائفتان، تسمى واحدة "يَهُب"، وتسمى الأخرى "يَعُوم".
قالت رملة من يهب: ومن يكون كورتثار؟
قالت رملة من يعوم: ومن يكون كورتثار؟
قالت يهب: كورتثار من الأرجنتين.
قالت يعوم: كورتثار من الأرجنتين.
قالت يهب: وماذا يكون في الأرجنتين؟
قالت يعوم: وماذا يكون في الأرجنتين؟
قالت يهب: إنه قاص.
قالت يعوم: إنه قاص.
قالت يهب: ولماذا تجادليني؟
قالت يعوم: ولماذا تجادليني؟
قالت يهب: أنا لا أجادلك.
قالت يعوم: أنا لا أجادلك.
قالت يهب: بل أنت تجادليني.
قالتي يعوم: بل أنت تجادليني.
اشتبكت حبة الرمل يهب مع حبة الرمل يعوم وتدحرجتا فوق أكتاف طوائف الرمل. خارت قواهما من العراك. ارتمت كل واحدة في جهة تلهثان وقلباهما يخبطان والعرق يسح منهما. استعادتا بعض القوة.
قالت يعوم وهي تنهج: أنت يهب.
قالت يهب وهي تنهج: أنت يعوم.
قالت يعوم وهي تمسح العرق بمنديل ورق: أتذكرين قصة الحمار؟
قالت يهب وهي تمسح العرق بمنديل ورق: أتذكرين قصة اليهودي؟
قالت يعوم: أقصد الحمار واليهودي.
قالت يهب: أقصد اليهودي والحمار.
قالت يعوم: كان اليهودي عطارا.
قالت يهب: كان اليهودي عطارا.
قالت يعوم: وضل طريقه في هذا العِرق.
قالت يهب: وضل طريقه في هذا العِرق.
قالت يعوم: فمات من العطش وبقي الحمار ولذلك سميناه بعرق اليهودي.
قالت يهب: فمات من العطش وبقي الحمار ولذلك سميناه بعرق اليهودي.
قالت يعوم: وأين الحمار؟
قالت يهب: وأين الحمار؟
قالت يعوم: نقلوه إلى إسرائيل.
قالت يهب: نقلوه إلى إسرائيل.
قالت يعوم: وأين تقع إسرائيل؟
قالت يهب: وأين تقع إسرائيل.
قالت يعوم: إنها في فلسطين.
قالت يهب: إنها في فلسطين.
قالت يعوم: وأين تقع فلسطين؟
قالت يهب: وأين تقع فلسطين؟
قالت يعوم: إنها فوق عرق رمل آخر.
قالت يهب: إنها فوق عرق رمل آخر.
قالت يعوم: وكيف هي رماله؟
قالت يهب: وكيف هي رماله؟
قالت يعوم: إنها تشبهنا.
قالت يهب: إنها تشبهنا.
قالت يعوم: فيها يهب ويعوم.
قالت يهب: فيها يهب ويعوم.
قالت يعوم: ولماذا تجادليني؟
قالت يهب: ولماذا تجادليني؟
قالت يعوم: أنا لا أجادلك.
قالت يهب: أنا لا أجادلك.
قالت يعوم: بل أنت تجادليني.
قالت يهب: بل أنت تجادليني.
واشتبكتا من جديد.
قالت يد يهب ليد يعوم: خمشت وجهي.
قالت يد يعوم ليد يهب: خمشت وجهي.
قالت رأس يهب لرأس يعوم: خذ هذه النطحة.
قالت رأس يعوم لرأس يهب: خذ هذه النطحة.
قالت رجل يهب لرجل يعوم: خذي هذه الركلة.
قالت رجل يعوم لرجل يهب: خذي هذه الركلة.
تخامشتا وتلاكمتا وتراكلتا وتناتفتا.
قالت يعوم: أنت أسلت دمي.
قالت يهب: أنت أسلت دمي.
قالت يعوم: أنت البادئة.
قالت يهب: أنت البادئة.
زاد اشتباكهما وكادت واحدة تقتل الأخرى لولا مجيئ شيخ الرمل على عجل بعد علمه بما يجري. فك ارتباطهما ولام طائفة يهب وطائفة يعوم على عدم التدخل للصلح بين الحبتين.
قالت طائفة يعوم: إنه عمل فردي معزول.
قالت طائفة يهب: إنه عمل فردي معزول..
التفتت طائفة يعوم نحو طائفة يهب وقالت لها: أنا قلت إنه عمل فردي معزول.
التفتت طائفة يهب نحو طائفة يعوم وقالت لها: أنا قلت إنه عمل فردي معزول.
قالت طائفة يهب: ولماذا تجادليني؟
قالت طائفة يعوم: ولماذا تجادليني؟
قالت طائفة يهب: أنا لا أجادلك.
قالت طائفة يعوم: أنا لا أجادلك.
قالت طائفة يهب: بل أنت تجادليني.
قالت طائفة يعوم: بل أنت تجادليني.
واشتبكت الطائفتان. انقسمت الطوائف الأخرى. منها من انحاز ليهب، ومنها من انحاز ليعوم. طوائف "القدر أبونا"، و"حُكَّ جلدك"، و"يفاوضون"، و"الصلح خير"، انحازت ليهب. وطوائف "ما نعرف المصير"، و"ظفرك يحكك"، و"يحاورون"، و"سالم أفضل"، انحازت ليعوم. تعاركوا في الأرض وفي الجو. حجبوا ضوء الشمس عن شيخ الرمل وعن حي. أمسك شيخ الرمل حيا من ذراعه وأبعده عن عرق اليهودي، خاصة بعد ظهور وصايا ديناصورية تحلق فوق المتحاربين.
قال الشيخ ممسكا بيد حي:
- علينا بتجنب المتحاربين. تلك الوصايا الديناصورية لا تؤتن.
- ألم تنقرض؟ سأله حي.
- إنها تنقرض لكن تنبعث إذا اشتدت الحروب. تنتعش وتختلج فيها الروح لما تضرى الحرب.
- ولماذا الوصايا على تلك الحال؟
- في القديم كان للبشر وصايا يعيشونها. لم تكن منفصلة عنهم. لما اتخذ البشر وصايا منفصلة عنهم وقع الحدث الكوني. تناسلت الوصايا التي تراها وهاجمت الأرض. أبادت الوصايا السابقة وأبادت البشر في هذه الصحراء. بقي لها مجتمع الرمل. اُنظر إليها كيف تحلق وتخترق المتحاربين. تلك الوصايا هي من أصل واحد يسمى "يموت". جدها الإله يموت كان له صغيران أرسلهما للأرض. كبر كل واحد منهما بعيدا عن أخيه وتناسلا ذاتيا. مع الزمن تغير شكل هذا عن شكل ذاك. تأمل جيدا ترى فيها طائفتين هما الأكثر عددا، ومعهما طوائف أقل عددا، مختلفة عنهما بعض الشيء في الشكل ولكنها منحازة إما لهذه الطائفة من الوصايا أو لتلك.
- وما الذي تقوم به وهي تطير بين يهب ويعوم؟
- تحرض هذا ضد ذاك. تزداد تحريضا بازدياد ضراوة الحرب.
ابتعد شيخ الرمل ومعه حي عن مسرح العمليات. اقتعدا صخرة وعيونهما على غبار المعركة.
قال حي: ومن يكون كورتاثور؟
رد الشيخ: تقصد كورتثار؟
قال حي: تقصد كورتثار؟
قال الشيخ: هو من الأرجنتين.
قال حي: هو من الأرجنتين.
قال الشيخ: ولماذا تجادلنني؟
قال حي: ولماذا تجادلني؟
قال الشيخ: أنا لا أجادلك.
قال حي: أنا لا أجادلك.
قال الشيخ: بل أنت تجادلني.
قال حي: بل أنت تجادلني.
ابتسم الشيخ وابتسم حي وضرب الواحد يده على يد الآخر.
شيخ الرمل لحي: كورتثار واحد من أصحاب القصة. مجتمع الرمل يعيش بالقصص. إننا نصدقها. ما نختلف فيه هو درجة التصديق. لولا القصص لما كان لنا وجود، لكنا تفرقنا في هذه الصحراء. مشكلتنا أن القصص التي نحيا بها، بسببها نتنازع أيضا. إنها مصدر الخلاف الأيديولوجي بين يهب ويعوم.
حي للشيخ: ما معنى أيديولوجي؟
الشيخ لحي: أيديولوجي يعني كيف نصدق. يهب ترى أن "كيف نصدق" عندها مخالف لـ"كيف نصدق" عند يعوم. أسباب الاختلاف قائمة في "كيف" وليس في التصديق. نعرة الخلاف موجودة فينا وليس في القصص.
حي للشيخ: قلت إنكم تعيشون بالقصص.
- صحيح.
- هل سمعتم بقصة شخص يسمى حيا؟
- أقلت حيا؟
- نعم. قصة رجل كان يعيش في جزيرة بين الأدغال.
- آه. قصة حي. قال الشيخ مبتسما. ربت على كتف حي وتابع: هي قصة شاب ينزل من السماء في ضباب كثيف يحجب الرؤية في جزيرة بها أدغال. تراه الحيوانات فتعتقده إلها تسجد له وتبايعه ملكا عليها إلا إبليس، فإنه رفض وقال: أنا لا أسجد في ضباب العماء. إنها قصة حول ذلك الشاب الذي كان يشبه الحيوان سوى أن رأسه رأس آدمي.
- بل كان آدميا.
- يا بني، نحن لا نجادل في القصص. نجادل في التصديق ولا نجادل في القصص.
- كان آدميا أؤكد لك. أنا هو. أنا هو حي. أنا هو تلك القصة.
قهقه الشيخ حتى ظهرت أنيابه ورد معلقا:
- لا تمازحني. حي عاش في زمن موغل في القدم. أي قبل انقراض الأدغال والغابات. سرح بصرك. هل ترى حولك أدغالا وغابات؟
- أصدقت أنها انقرضت؟
- وكيف لا أصدق؟
- لكنك أتيت منها. ألست واحدا من النقوريات؟
- يا لخفة ظلك. أنا نقور؟ ومن يكون نقور هذا؟
- كان نسرا وأصبح سمكة وتحول إلى شيخ رمل. أتنكر؟
- يا ابني، لعلك محموم بسبب الحرب في مجتمع الرمل وتحليق الوصايا الديناصورية.
- طيب، ومن أين أتيت؟
- أتيت من الرمل. وجدت نفسي بين الرمل، والرمل يبايعني شيخا عليه. هذا ما في الأمر.
- يبدو أنك تعرضت لغسيل دماغ يا شيخ الرمل.
- ماذا تقول؟
- لا شيء. أسألك فقط عن شيوخ آخرين للرمل.
- يوجد شيوخ رمل آخرين في أماكن أخرى. نلتقي لماما.
- ألا تتكلمون عن أصولكم؟
- لسنا في حاجة لمعرفة أصولنا. مجتمع الرمل يحكي لنا القصص ونحن نؤدي دورنا.
- المهم، المهم. قل لي: كيف تعيشون وأنتم رمل؟
- هذا يدهشك؟
- بل يحيرني.
- نعيش لأننا عِرق. عِرق كثبان رمل. نحن نعيش لأنهم سمونا عرقا. العرق لا يختلف بين صحراء وصحراء. مادام عرقا فرماله تعيش. الرمال تعيش في كثبان العِرق. اُنظر إلى يعوم. كانت ميتة في الماء، حين التحقت بـ"يهب" في الكثيب ضمنت الحياة. الرمال خارج العرق تموت. تتحرك لكنها ميتة. تأملْ كثبان العرق. إن رماله تتحرك، لكن الكثيب لا يبارح مكانه. إذا بارح مكانه يموت.
- أنا بارحت مكاني فهل يعني...
- حديثي هو عن مجتمع الرمل لا عن مجتمع البشر. مجتمع البشر يعيش بالافتراضات، أما نحن فنعيش بالقصص والحكايات كما قلت لك.
- كلامك طريف ويسلي ياشيخ. افتراضات، قصص، حكايات... أخبرني إذن. بما أنكم تعرفون قصة ذلك الحيوان المسمى بحي...
- لم أقل إنه حيوان. قلت لك رأسه رأس آدمي.
- لا علينا. لنقل إنه حيوان بشري. وبما أن لديكم اطلاعا على قصته، فهل لديكم علم بما سبق قصته؟
- هاه، هاه. ما سبقها هو حكاية ذلك العسكري المغربي الذي تجند ضمن جيش الفرنسيس ليحارب في آسيا.
- مضبوط. معلوماتك مدققة يا شيخ. قل لي إذن. ما علاقة بطلك العسكري بذلك الحيوان البشري؟
- هذه لن أجيبك عنها. نحن لا ندقق في المعلومات، ولا نعقد المقارنات. نحن لا نجادل. الجدل يسبب لنا الحرب، وقد رأيت ذلك بعينيك.
- مزيان مزيان.
- ماذا قلت؟
- قلت مزيان مزيان.
- وما معنى مزيان مزيان؟
- تعني مزيان بالزّاف.
- وما معنى مزيان بزّاف؟
- مجرد كلمات نعبر بها لنقول حسنا.
- حسنا حسنا يا غريب.
- حسنا.
- لم تكرر حسنا يا غريب.
- حسنا حسنا.
- حسنا.
- أنت أيضا لم تكرر حسنا حسنا يا شيخ.
- حسنا حسنا.
- قل لي يا شيخ الرمل: هلا حدثتني عن نهاية قصة الشاب المُتَحَيْوِن حي؟
- هذه القصة يا ابني واحدة من ملايين القصص، ولم نهتم بها كثيرا. ماذا يفيدنا من قصة بني آدم مُتَحَيْوِن؟ وأنا تقدمت في السن كما ترى ولم تعد ذاكرتي تحتفظ سوى بالأهم من القصص.
- مثل ماذا؟
- مثل قصة الأعرابي مع الدب والحمار. هل أحكيها لك؟
- لا. لا لست مستعدا لسماع قصص الحيوان الآن. لكن أخبرني، كيف تعرفون هذه القصص؟
- نعرفها بأن نراها.
- وكيف تعرفونها بأن تروها؟
- نعرفها بأن نراها، لأننا نراها بأن نعرفها. هل فهمت؟
صمت حي ولم يرد. كانت الحرب مازالت مشتعلة بين طوائف الرمل، بينما تلك الوصايا الديناصورية مستمرة في التحليق بين المتحاربين. شغلته الوصايا فاستفسر الشيخ عن أصولها وماضيها. كان يظنها منقرضة من خلال تلميحات الحصان الأشهب. أحاطه الشيخ علما ببعض أخبار الوصايا وقام بعدما رأى المعركة تخمد شيئا فشيئا. قال لحي وهو يودعه: علي أن أرجع لتفقد خسائر المعركة. هذه حالنا. ما أن نجتمع ونتكتل في عِرق واحد حتى تندلع الفتنة بيننا. هذا مصيرنا. سأحاول ترميم ما يُرمم وإصلاح ما يُصلح. وداعا أيها الشاب المُتَحَيْوِن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.