الجمعة، 15 مايو 2015

الرئيسية محمد عابد الجابري.. مكونات وبنيات العقل المعرفي العربي

محمد عابد الجابري.. مكونات وبنيات العقل المعرفي العربي

 محمد عابد الجابري.. مكونات وبنيات العقل المعرفي العربي




شهد العالم العربي ومن بينه المغرب عدة مشاريع فكرية، كان هاجسها الأساس التفكير في سؤال النهضة؛ مع اختلاف في كيفية المعالجة، التي ترجع إلى تعدد المداخل المنهجية المعتمدة. فإلى جانب المشروع القائم على النقد المزدوج لعبد الكبير الخطيبي، والمشروع القائم على النقد التاريخي لعبد الله العروي، هناك مشروع آخر قائم على النقد الابستمولوجي، وهذا المشروع هو الذي قدمه الأستاذ محمد عابد الجابري، ويعرف بمشروع «نقد العقل العربي»، حيث حاول من خلاله الإجابة عن سؤال النهضة، انطلاقا من نقده للعقل العربي سواء في مستواه المعرفي، أو القيمي الأخلاقي، أو السياسي. وكل هذا كان الغرض منه إبراز المعيقات التي تمنعنا من التقدم، وتجعل عقلنا عقل مستقيل، وكذا الوقوف عند الطريق الذي يؤدي إلى إحقاق العقل الناهض... يتحدد مشروع «نقد العقل العربي» في أربعة أجزاء أساسية، وهي: «تكوين العقل العربي» و«بنية العقل العربي» اللذين يشكلان دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، «العقل السياسي العربي» الذي يعتبر دراسة تحليلية نقدية للنظم السياسية في الثقافة العربية، وأخيرا «العقل الأخلاقي العربي» الذي يعتبر دراسة تحليلية نقدية للنظم القيمية في الثقافة العربية.
بدأ الأستاذ الجابري بتتبع مراحل تكوين العقل العربي داخل الثقافة العربية العالمة، ويقصد بها «التي دونت وصنفت وأعيد بناؤها خلال عصر التدوين وامتداداته» وخلص إلى أن «الثقافة العربية في حاجة ماسة وملحة إلى إعادة كتابة تاريخها» فتاريخ الثقافة العربية الراهن مازال مجرد تكرار واجترار لنفس التاريخ الذي كتبه أجدادنا، ومازال خاضعا لنفس الاهتمامات والإمكانيات التي وجهتهم وتحكمت في رؤاهم، مما جعل التاريخ الذي خلفوه تاريخ فرق وطبقات ومقالات، يقول الأستاذ الجابري في هذا الصدد: إن تاريخ الثقافة العربية «هو تاريخ اختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء للرأي»، فكل الدراسات الراهنة حاولت أن تعيد إنتاج نفس التاريخ الموروث، بل الأكثر من ذلك أنه أصبح يخضع للتشويه والتحريف، وذلك قصد إثبات الجدة والأصالة والسبق التاريخي، وهذا يؤدي –حسب الجابري- إلى عدم التقيد بالنظرة العلمية الموضوعية للأشياء.
ولتجاوز كل هذه المعيقات حاول الجابري التخلص من العوائق الإبستمولوجية، والهواجس الإيديولوجية على اعتبار أنها تعرقل انطلاقة البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي، وركز اهتمامه على الجانب الإبستمولوجي «أي البحث في ما يؤسس المعرفة داخل الثقافة العربية» وبذلك وقف عند تصنيف جديد لعلوم وضروب المعرفة في الثقافة العربية، مخالف للتصنيف القديم، على اعتبار أن هناك علوم نقلية وأخرى عقلية، أن هناك علوم دين وعلوم لغة، أو أن هناك علوم عرب وعلوم عجم... في حين أن الوقوف عند البنية الداخلية للمعرفة؛ أي آلياتها ووسائلها ومفاهيمها الأساسية، هو المؤسس للتصنيف الجديد، ويحدد الجابري التصنيف الجديد بقوله: «هكذا أمكن تصنيف العلوم وجميع أنواع المعارف في الثقافة العربية الإسلامية إلى ثلاث مجموعات: علوم البيان من نحو وفقه وكلام وبلاغة، ويؤسسها نظام معرفي واحد يعتمد قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة» وهذا ما أسماه الجابري بالمعقول الديني العربي المقيد بالمجال التداولي للغة كرؤية واستشراف. «وعلوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة إسماعيلية وتفسير باطني للقرآن وفلسفة إشراقية وكيمياء وتطبب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم تنجيم»... ويؤسسها نظام معرفي يقوم على «الكشف والوصال» و«التجاذب والتدافع» كمنهاج. وهذا ما أسماه الجابري باللامعقول العقلي؛ أي ما ينسب إلى العقل لا إلى الدين، والذي كرسته الهرمسية كرؤية واستشراف. وأخيرا علوم البرهان من منطق ورياضيات وطبيعيات وإلاهيات، بل وميثافيزيقا، ويؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج، وهذا ما أسماه الجابري بالمعقول العقلي؛ أي المعرفة العقلية المؤسسة على مقدمات عقلية – كرؤية واستشراف. ولم يتوقف الجابري عند هذا التصنيف الجديد فقط، بل قاده بحثه الإبستمولوجي القائم على الاهتمام بالبنية الداخلية للثقافة العربية إلى تبيان طبيعة الحركة داخل هذه الثقافة، ويشير إلى أن هذه الحركة هي أقرب أن تكون حركة اعتماد منها إلى حركة نقلة، لأنها إذا كانت حركة نقلة، فإنها كانت ستنتقل من مرحلة لأخرى ويتجاوز بفضلها اللاحق السابق، ينفيه ويلغيه بعد أن يحتفظ منه بما يقبل الحياة والتجدد. إذن، فالنتيجة التي يؤكدها الجابري هي أن الثقافة العربية الإسلامية ظلت تعيد إنتاج نفسها منذ عصر التدوين، باستثناء التجربة الأندلسية التي ما فتئت أن اختنقت، فلم يتردد لها أي صدى في الثقافة العربية، فالزمن الثقافي العربي ظل هو هو منذ عصر التدوين يجتر نفسه يتموج من ذات «اللحظة» حتى انتهى به الأمر إلى الركود. والسبب في هذا الركود –حسب الجابري- يستنبط من خلال المقارنة بين الحضارة العربية والحضارتين اليونانية والأوروبية، والسؤال الإبستمولوجي الذي يطرح هو: لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤية...) في الثقافة العربية خلال نهضتها في القرون الوسطى إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم على غرار ما حدث في أوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر؟ وبشكل مختصر فالتجربة اليونانية أتت بشيء جديد في تاريخ الفكر البشري، وهو الفلسفة، وكان عنصر التقدم هو العلم، انطلاقا من طاليس ومرورا بكل الفلاسفة الطبيعيين اللاحقين عليه وصولا إلى أرسطو، كان التقدم العلمي هو المؤسس والحافز والدافع، لكن رغم كل هذا، فقد عرف الفكر اليوناني ركودا، خصوصا بعد أرسطو الذي أكمل بناء الصرح النظري للفكر الفلسفي والعلمي اليونانيين. وسبب هذا الركود هو أن العقل اليوناني كان يعرض عن التجربة ويحتقر المعرفة الحسية التي بإمكانها أن تفتح المجال للعقل ليراجع نفسه، وبالتالي ليتجدد وينمو. مع التجربة الأوروبية الحديثة وظهور العديد من الأبحاث العلمية الجديدة أضيف عنصر آخر إلى العلم وهو التجربة، فوصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه من تقدم ملموس توج بظهور التقنية، وبالتالي «فتقدم الفكر كأداة وكمحتوى كان ولازال مرهونا بتقدم العلم».
إذن، إذا كان العلم هو أساس التقدم، ألم يكن هناك علم عربي يساهم في تقدم الثقافة العربية الإسلامية؟
نقول باختصار انطلاقا مما قدمه الجابري، أنه كان هناك علم عربي والدليل على ذلك أبحاث الخوارزمي وابن الهيثم وابن البنا المراكشي... وغيرهم من العلماء العرب البارزين، لكن هذا العلم كان موضوعا على الهامش، لأن الأمور الدينية كانت هي السائدة والمسيطرة، وبالتالي فحضارة العرب هي حضارة فقه، كما أن حضارة اليونان حضارة فلسفة، وحضارة أوروبا حضارة علم وتقنية. وعندما انتهت كل الأبحاث المتعلقة بالأمور الدينية مع علماء الدين أمثال الشافعي وغيره، تم غلق البحث الديني، مما جعل الأبحاث اللاحقة مجرد تكرار واجترار لما سبق، وبالتالي فإن كل هذه العوامل اجتمعت لتعلن استقالة العقل العربي. وهكذا نكون قد قدمنا ولو بشكل مختصر التصنيف الجديد لضروب المعرفة وكذا سبب ركود الثقافة العربية.
وبعد انتهاء الجابري من خلال دراسته لمكونات العقل العربي داخل الثقافة العربية إلى التمييز بين ثلاثة نظم معرفية «يؤسس كل منها آلية خاصة في إنتاج المعرفة مع ما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة كذلك» كان أمام تحليل هذه النظم المعرفية الثلاثة وفحص آلياتها ومفاهيمها ورؤاها وعلاقة بعضها ببعض «مما يشكل البنية الداخلية للعقل العربي كما تكون في عصر التدوين وكما استمر إلى اليوم».
وعندما يتحدث الأستاذ الجابري عن العقل العربي فهو يقصد به «جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة وتفرضها عليهم كنظام معرفي»، وأول صنف معرفي هو البيان؛ ويقصد به كفعل معرفي: الظهور والإظهار والفهم، أما كحقل معرفي فهو «عالم المعرفة الذي تبنيه العلوم العربية الإسلامية الخالصة، علوم اللغة وعلوم الدين»، وكنظام معرفي فالبيان هو جملة المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تعطي لعالم المعرفة ذاك بنيته اللاشعورية. أما الصنف الثاني فهو العرفان، ويقصد به كفعل معرفي الكشف أو العيان، وكحقل معرفي في ارتباطه بالإسلام فقد تأسس ارتباطا بالنص (اللغة) وبالشريعة (السياسة)، وكنظام معرفي فالعرفان هو جملة المبادئ والإجراءات التي تدور حول قطبين رئيسيين، أحدهما يستثمر اللغة بتوظيف الزوج الظاهر/الباطن الذي يكافئ ويوازن الزوج اللفظ/المعنى في النظام البياني، والثاني يخدم السياسة ويستثمرها في نفس الوقت صراحة أو ضمنا وذلك بتوظيف الزوج الولاية/النبوة الذي يكافئ ويوازن الزوجين: الأصل/الفرع، والجوهر/العرض، في النظام البياني. وبالنسبة للصنف الثالث أي البرهان، فهو كفعل معرفي استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية المنحدر إلى الثقافة العربية عبر الترجمة، وكنظام معرفي فهو يتمحور حول قطبين، أحدهما يخص المنهج ويوظف الزوج: الألفاظ/المعقولات، الذي يكافئ الزوج: اللفظ/المعنى في النظام البياني، والآخر يخص الرؤية، ويوظف الزوج: الواجب/الممكن، الذي يكافئ الزوجين البيانيين: الأصل/الفرع، والجوهر/العرض. هكذا إذن يحدد الجابري بنية كل صنف من أصناف المعرفة في الثقافة العربية.
وعموما فالمفكر محمد عابد الجابري يحاول من خلال مشروعه أن ينتصر ويؤسس لحركة عقلانية بحيث تتأطر في المعقول العقلي والمعقول الديني، وفي مقابلهما ألغى وهمش كل حركة أو تيار كان في نظره ضمن الحركة اللاعقلية أو ضمن التيارات الغنوصية أو الهرمسية، باعتبارها كانت تشكل خطرا على الإسلام. وتمحور عمل الجابري في محاولة إيجاد الآليات المنتجة للأفكار وليس الأفكار نفسها، وهذا ما دفعه للتمييز بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى.




عبد العالي كركوب



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.